الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 38
جيمس مادسون
James Madison
12 يناير، 1788


إلى أهالي ولاية نيويورك:
ليس أمراً غير جدير بالملاحظة أن يجد المرء في كل حالة يذكر التاريخ القديم أنه تم فيها إنشاء حكم بعد إعمال رويّة وموافقة شعبية، إنما عُهد بوضع أطر لإدارة ذلك الحكم إلى مجموعة من الأشخاص لكنه تم إنجازه على يدي مواطن فرد شهد له الجميع بالحكمة والنزاهة.
نحن نعلم أن مينوس هو مؤسس الحكم في جزيرة كريت، كما كان زاليكوس مؤسس مثل ذلك عند اللوكريين. كذلك نعلم أن ثيسيوس أولاً، ثم دراكو الذي عقبه صولون هم مؤسسو الحكم في أثينا. وأن ليكورغوس فعل مثل ذلك في إسبارطة. أما أسس الإدارة والحكم في روما فقد أرساها رومولوس، وأتم ذلك اثنان من خلفائه المنتقين، هما نوما وتوليوس هوستيليوس. وعند إلغاء الملكية تم استبدالها بالحكم القنصلي على يد بروتوس، الذي تقدم بمشروع لذلك الإصلاح، زعم أنه قد وضعه سيرفيوس توليوس. وبعد ذلك تمت الموافقة عليه وإقراره من قبل مجلس الشيوخ والشعب في روما. إن هذه الملاحظة تصدق في حال الحكومات الكونفدرالية أيضاً. فالتاريخ يروي أن أمفيستيون هو واضع أسس الكونفدرالية التي حملت اسمه فيما بعد. والآن، تُرى أي درجة من التوكيل والتفويض كان لدى هؤلاء المشرعين العظام لتأسيس أطر الحكم التي وضعوها؛ وإلى أي مدى يمكن إضفاء سمة السلطة الشرعية التي فوضها الشعب على أي منهم! هذا أمر لا يمكن الجزم به ولا التأكيد عليه. نعم في بعض تلك الحكومات تمت مراعاة الإجراءات بصورة منتظمة. إذ يبدو أن دراكو قد تم تكليفه أن يقوم بتلك المهمة من قبل مواطنيه في أثينا، كما تم تفويضه تفويضاً مطلقاً في القيام بإصلاح الحكم والقوانين السارية آنذاك. وكذلك حال صولون، كما يروي بلوتارك، فقد تم تكليفه من قبل اقتراع عام أجراه مواطنوه وعهدوا فيه إليه بالسلطة الكاملة والمطلقة لإعادة تشكيل دستور البلاد. أما الإجراءات في حال ليكورغوس فكانت أقل انتظاماً منها عند سلفه، ولكن بالقدر الذي يمكن فيه نجاح الدعاة إلى الإصلاح حينذاك، فإنهم جميعاً وجهوا أنظارهم صوب رجل معروف بوطنيته وحكمته؛ عوضا عن السعي للقيام بثورة عن طريق تدخّل مجموعة من الموطنين الأفراد.
أنى كان يمكن أن يحصل أن شعباً شديد الغيرة على حرية أفراده، كالإغريق، يهجر اتخاذ الحيطة والاحتراز ويسلّم مصيره إلى يدي مواطن فرد؟ وأنى كان يمكن أن يحصل أن الأثينيين، الذين لا يرتضون أن يسلّموا قيادة جيشهم إلى أقل من عشرة جنرالات، والذين ما كانوا يتطلبون برهاناً على وجود خطر يهدد حرياتهم أقل من الكفاءة الواضحة بجلاء عند أحد مواطنيهم – يعتبرون مواطناً مرموقاً من بينهم كفالة مقبولة على مقدّراتهم في الحاضر والمستقبل؟ ويرون ذلك أفضل من مجموعة منتخبة من الأفراد، الذين قد يتوقع المرء من مداولاتهم العامة التوصل إلى حكمة أكبر، وأمان أعظم؟ إن هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها إجابات وافية دون أن يفترض المرء أن الخشية من عدم الاتفاق وانعدام التضافر بين مجموعة من المستشارين تفوق التخوف من الخيانة وعدم الكفاءة لدى شخص بمفرده. والتاريخ يروي لنا، بدوره، قدر المشقات التي كان على أولئك المصلحين أن يواجهوها، والعقبات التي كانوا مجبرين على استخدامها وتوظيفها بغية إنجاز إصلاحاتهم ووضعها موضع التطبيق. ها هو صولون. الذي يبدو أنه كان يباشر سياسة تهدئة أكثر من غيره، يعترف صراحة أنه لم يقدّم لمواطنيه نوعاً من الحكم هو الأفضل لضمان سعادتهم، وإنما قدم لهم حكماً وإدارة تتقبلها، مشاعر الغيرة فيما بينهم، وها هو ليكورغوس، والأكثر صدقاً والتزاماً بالوصول إلى الهدف الذي كان ينشده، يجد نفسه مضطراً إلى مزج قدر من العنف بقدر من سلطة الخرافة، وإلى ضمان الحصول على نجاحه النهائي بالتخلي عن بلده أولاًَ ثم التخلي عن حياته نفسها بعد ذلك. إذا كانت هذه الدروس تعلمنا، في جانب منها، أن نقدر بإعجاب التحسين الذي أجرته أمريكا على النمط القديم لإعداد ووضع الخطط المنتظمة للحكم والإدارة، فإنها (الدروس) من جانب آخر تدفعنا إلى تجنب المخاطر والعقبات الملازمة لمثل تلك التجارب، وإلى تحاشي التهور وعدم التبصر في تكرار لا ضرورة له لأخطائنا.
أليس من باب التخمين غير المعقول أن الأخطاء التي ربما وقعت فيها خطة الميثاق إنما حصلت من جراء انعدام الخبرة السابقة في هذا الموضوع الشائك والمعقد أكثر من حصولها جراء فقدان الدقة أو العناية في التحري والبحث، ومن ثم، فقد كانت أخطاء من النوع الذي لا يمكن الجزم به إلى أن تشير إليه التجربة الفعلية وتبنيه في الواقع؟ إن هذا تخمين يغدو قابلاً للاحتمال، لا انطلاقاً من اعتبارات كثيرة للطبيعة العامة، بل انطلاقاً من حال فقرات معينة في اتفاقية الكونفدرالية. ومن الملحوظ أنه بين الاعتراضات العديدة والتعديلات المقترحة من جانب عدة ولايات، حين قدمت تلك الفقرات لإقرارها من قبل الولايات، لا نجد اعتراضاً أو اقتراحاً واحداً يشير إلى الخطأ الجذري والكبير الذي تم تكشفه في التجريب الفعليّ. وإذا ما استثنينا الملاحظات التي عرضتها ولاية نيوجرزي، وبفعل موقعها الجغرافي أكثر منه بفعل الحدس المستقبلي عند أهلها، فإنه عند ذلك يمكن التساؤل: ترى هل يكفي اقتراح واحد بمفرده لأن يغدو دافعاً كافياً لإجراء إعادة نظر في النظام بكامله!! هنالك سبب كاف تماماً، على كل حال، أن نفترض أنه بقدر كون هذه الاعتراضات غير حقيقية، فإنه قد تم التمسك بها بتصلب وعدم مرونة من جانب بعض الولايات لولا أن الشعور القويّ بالحفاظ على الذات من قبل تلك الولايات قد خفف من حدة تحمسها لآرائها ومصالحها المفترضة. فهناك ولاية واحدة، كما أذكر، قد أصرت ولسنوات طوال على رفض التعاون، رغم أن العدو ظل طيلة تلك الفترة يقف عند أبوابنا، بل بالأحرى قائماً في أحشائنا ذاتها. ولم تكن موافقتها آخر الأمر لتتم لولا شعورها بدافع الخوف من أن تتهم بإطالة الكوارث العامة وتعريض الوضع كله للخطر. إن لكل مطلع منصف أن يتخذ الرأي والانطباع الذي يشاؤه تجاه هذه الحقائق المهمة.
إن المريض الذي يشعر أن حالته الصحية تسوء يوماً فيوماً، ويحس أنه لم يعد بوسعه تأجيل الخضوع للمعالجة الناجعة دون التعرض لخطر جسيم، يعمد إلى تقليب هذا الأمر بكل برود، ويفكر في صفات مختلف الأطباء الممارسين، ثم ينتقي بعضهم ويستدعي منهم أولئك الذين يقدّر أنهم أقدر على مساعدته في مرضه، وأكثر تمتعاً بثقته من غيرهم. ويحضر الأطباء، ويفحصون حالة المريض بكل عناية وحذق، ويعقدون مشاورة فيما بينهم، وتجمع آراءهم على أن وضع المريض خطير، لكن حالته، إذا ما وجدت اهتماماً كافياً وعلاجاً في وقته، هي حالة غير ميئوس منها، بل يمكن تحويلها إلى وضع تحصل منه الفائدة لجسم صاحبه بكامله. وهم يتفقون بالإجماع على الوصفة الطبية التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك الغرض. وحالما يُذاع هذا التشخيص، سرعان ما يتقدم عدد من الأشخاص يتدخلون في الأمر، وبدون أن ينكروا حقيقة خطر الاضطراب الصحي لدى الرجل تجدهم يؤكدون للمريض أن العلاج الموصوف سيكون سماً زعافاً له، وينهونه عنه، تحت طائلة التعرض للموت الأكيد إذا ما استعمل ذلك لعلاج. أليس من المعقول تماماً من جانب المريض أن يطلب إلى هؤلاء قبل المغامرة باعتماد نصيحتهم أن يتفقوا فيما بينهم على الأقل، على علاج آخر يمكن الاستعاضة به؟ وإذا ما وجدهم مختلفين، الواحد منهم عن الآخر كاختلافهم عن أطبائه الأولين، أليس من واجبه أن يتصرف بحكمة أولاً فيجرب ما تم الإجماع عليه وتحبيذه من قبل الأطباء الأولين، واعتبار ذلك أفضل كثيراً من الاستماع لرأي أولئك الذين لا يستطيعون إنكار ضرورة العلاج السريع ولا يتفقون على اقتراح علاج آخر جديد؟
إن حال هذا المريض، وهذا الموقف، هو حال أمريكا في هذه اللحظة. فهي تشعر بدائها، وقد حصلت على نصيحة نظامية وبإجماع الآراء من جانب رجال هي التي اختارتهم بعد رويّة وتفكير. وها رجلاً غير أولئك يحذرونها من أتباع تلك النصيحة تخوفاً مما يترتب عليها من مخاطر مميتة. تُرى هل يُنكر المراقبون واقع الخطر الذي تتعرض له؟ كلا. وهل ينكرون ضرورة اللجوء إلى علاج قوي وسريع؟ كلا. هل هم متفقون، أو يتفق اثنان منهم على الأقل، في الاعتراض على العلاج المقترح، أو على العلاج البديل الذي يجب تعاطيه؟ دعهم يتكلمون عن أنفسهم. فهذا أحدهم يرى أن الدستور المقترح يجب رفضه لأنه ليس تجمعاً كونفدرالياً للولايات، بل هو حكومة تسيطر على الأفراد. وثان منهم يقبل أن تكون الحكومة حكومة تسيطر على الأفراد إلى حد ما، لكن ليس إلى المدى المقترح في الخطة بأي حال. وهناك ثالث لا يعترض على سيطرة الحكم على الأفراد، ولا على المدى الذي تقترحه الخطة بل على خلوها من لائحة بالحقوق. ورابع يوافق على الحاجة الماسة إلى لائحة بالحقوق، لكنه يناضل كيما لا تكون صريحة فيما يخص الحقوق الشخصية للأفراد، بل فيما يخص الحقوق المقصورة على الولايات بصفتها السياسية. وخامس من رأيه أن أية لائحة حقوق من أي نوع كانت سوف تكون زائدة وفي غير موضعها، والخطة المطروحة للبحث غير مستثناة من ذلك، إلا فيما يخص صلاحية تنظيم أوقات وأمكنة الاقتراع وهناك معترض من إحدى الولايات الكبيرة يرفع صوته صارخاً ضد المساواة غير المعقولة في التمثيل في مجلس الشيوخ. ومعترض من ولاية صغيرة يرفع صوته أيضاً صارخاً ضد عدم المساواة الخطير في مجلس الممثلين (النواب). من هذا الجانب نشعر بالفزع من عظم كلفة عدد الأشخاص الذين سيكلفون بإدارة دفة الحكم، ومن جانب آخر، وأحياناً من الجانب نفسه، وفي مناسبة أخرى، ترتفع الصرخة بأن الكونغرس لن يكون أكثر من ظل تمثيل، وأن الحكومة ستجد اعتراضاً أقل عليها لو كان عدد الممثلين وكلفتهم ضعف ما هو مقترح في الخطة. إن متحمساً في ولاية لا تستورد ولا تصدّر يبدي اعتراضات ليس لها حد ضد صلاحية فرض الضرائب المباشرة... فيما يكون خصمه المتحمس في ولاية تشتغل بالاستيراد والتصدير بدرجة كبيرة ليس أقل من سابقه تذمراً من أن عبء الضرائب بكامله سوف يقع على الاستهلاك. وصاحبنا السياسي هذا يكتشف في الدستور اتجاهاً مباشراً لا يمكن الوقوف ضده نحو الملكية؛ ويرى أن ذلك الدستور بكل تأكيد سوف ينتهي بنا إلى سيطرة الأرستقراطية. ومواطن آخر يشعر بالإرباك والحيرة بخصوص أي من أنماط الحكم السابقة سوف يكون الدستور، لكنه يرى بوضوح أنه سيسلك طريقاً أو آخر من تلك، بينما يتواجد هناك رابع يؤكد بكل ثقة واطمئنان أن الدستور بعيد تماماً عن الميل إلى خلق أي من هذه الأخطار وأن الثقل في كفة لن يكون كافياً لترجيح تلك الكفة بل الميزان ثابت وكاف ضد الحركة المعاكسة. ولدى فئة أخرى من خصوم الدستور نجد العبارات تذهب إلى دوائر التشريع، والتنفيذ، والقضاء هي دوائر مختلفة وبصورة تتناقض مع أفكار أية حكومة منتظمة ومع الاحترازات المتطلبة لضمان حرية المواطنين. وبينما يتداول هنا الاعتراض بعبارات غامضة وعمومية فإننا لا نجد إلا قلة من الناس يعيرونه اهتماما. دع كلاً من هؤلاء يعرض تفسيره الخاص به، وبالكاد تجد اثنين من هؤلاء يتفقان تمام الاتفاق بصدد الموضوع. ففي نظر امرئ أن ربط مجلس الشيوخ مع الرئيس في مهمة تعيين الموظفين للمراكز، بدلاً من تخويل هذه السلطة التنفيذية للرئيس وحده – هو الجانب الشرير في التنظيم كله. وفي نظر امرئ آخر، أن إبعاد مجلس الممثلين، والذين ستكون ضخامة عددهم وحدها ضماناً كافياً ضد الفساد والتحيّز في ممارسة تلك الصلاحية، لهو ممقوت بالقدر نفسه. ولدى امرئ ثالث سيكون إشراك الرئيس بأي نصيب في السلطة التي ستظل آلية خطرة في يد موظف تنفيذي – هو كسر لا يجوز السماح به لمبادئ الحرص على النظام الجمهوري. وليس هناك أي جزء من التنظيم كله، في نظر البعض أمراً لا يمكن قبوله، قدر فكرة توجيه التوبيخ من قبل مجلس الشيوخ، والذي هو بالتناوب عضو في كل من دائرة التشريع ودائرة التنفيذ، حين تتبع تلك السلطة دائرة القضاء. ويرد على ذلك الآخرون فيقولون "نحن نلتقي في الرأي مع من يعترضون على هذا القسم من الخطة، لكننا لا نستطيع موافقتهم في أن الإحالة إلى التوبيخ والمؤاخذة من جانب السلطة القضائية ستكون تعديلاً للخطأ. إن نفورنا الأكبر من هذا التنظيم ينشأ من السلطات الواسعة التي سبق أن رًكزت في يدي تلك الدائرة". وحتى بين الرعاة المتحمسين لمجلس الولاية فإن الاختلاف الذي يمكن رتقه يمكن العثور عليه في كيفية وجوب أن يتألف ذلك المجلس، فهذا سيد محترم يطلب أن يتألف المجلس من عدد قليل من الأشخاص يجري تعيينهم من قبل أكبر مجموعة عددية في الهيئة التشريعية. فيما يفضل سيد آخر عدداً أكبر، ويعتبره شرطاً أساسياً أن يتم التعيين من قبل الرئيس شخصياً.
ولما كان ليس بمقدورنا أن نستعرض مختلف الكتّاب المعارضين لخطة الدستور الفدرالي، دعنا نفترض أنه لما كانوا هم الأكثر حماسة فإنهم بدورهم الأكثر حكمة من أولئك الذين يرون أن أصحاب الميثاق الأخير كانوا غير كفؤ للمهمة التي عُهدت إليهم، ويرتأون أن خطة تكون أفضل وأوفر حكمة يجب أن يستعاض بها عن الخطة الحالية. بل دعنا نفترض أيضاً أن بلدهم يجب أن يلتقي معهم في كلا الرأيين: تقدير كفاءتهم، وعدم موافقتهم على المؤتمر، وبالتالي عليه أن يبادر إلى جعلهم يشكلون مؤتمراً ثانياً، له صلاحيات وافية، ومن أجل غرض سريع هو تنقيح وإعادة قولبة عمل المؤتمر الأول. ولو تم القيام بهذه التجربة فعلاً – وإن كان ذلك يتطلب بعض الجهد لتصورّها، حتى في الخيال – فأنا أترك الأمر لاتخاذ قرار بشأنه من خلال عيّنة الآراء التي عرضتها آنفاً، سواء من حيث معاداتها للآراء السابقة في أية نقطة واختلافها كثيراً عنها، كما في حال عدم الاتفاق، والأساس الذي سوف تتصف به مداولات أفرادها؛ أو من حيث أن الدستور المعروض حالياً على الجمهور لن يُعتبر فرصة مقبولة للخلود مثله مثل الذي قدّمه ليكورغوس لأهل إسبارطة وجعل بديله يعتمد على عودته من منفاه ثم موته، بحيث يتم تبنيه فوراً ويبقى مطبقاً، لا إلى أن يأتي دستور أفضل منه، بل إلى أن يأتي دستور آخر يحصل الاتفاق عليه لدى هذه الهيئة الجديدة من المشرعين.
يالها من قضية اندهاش وأسى أن أولئك الذين يثيرون اعتراضات كثيرة ضد الدستور الجديد لا يستدعون أبداً في أذهانهم عيوب الدستور الذي سوف يؤتي به للاستعاضة عنه. ليس من الضروري أن يكون الدستور السابق كاملاً تمام الكمال. ليس من الضروري أن يكون الدستور اللاحق أكبر نقصاً. ليس هناك من يرفض أن يعطي نحاساً أصفر بدلاً من الذهب أو الفضة، لأن في سبائك الأخير بعض الشوائب. وليس هناك من يرفض أن يهجر منزلاً مهدماً ومتداعباً إلى بناية ثابتة حسنة التجهيز لأن الأخيرة ليس لها رواق، ولا لأن بعض حجراتها أوسع أو أضيق قليلاً، أو لأن السقف فيها أعلى أو أوطأ قليلاً مما تصوّره في خاطره. أفليس ضرب الصفح عن شواهد إيضاحية من هذا القبيل دليلاً على أن الاعتراضات الكبرى المثارة ضد النظام الجديد إنما تقع بكل ثقلها ضد الكونفدرالية القائمة حالياً؟ هل إن سلطة غير محدودة لجمع المال هي خطيرة في يد الحكومة الفدرالية؟ إن الكونغرس الحالي يستطيع أن يطلب شراء لوازم بأي كمية يشاؤها أعضاؤه، والولايات ملزمة قانوناً بتقديم تلك الأموال. وفي مقدور أعضائه أن يُصدروا لوائح اعتماد طالما يستطيعون دفع ثمن ورق تلك اللوائح؛ بمقدورهم أن يستلفوا، من الخارج أو من الداخل، طيلة ما يجدون من يقبل إقراضهم شلناً. هل إن الصلاحية غير المقيّدة في جمع الجيوش هي صلاحية خطيرة؟ إن الكونفدرالية الحالية تمنح الكونغرس تلك السلطة أيضاً، وقد سبق أن بدأ الأعضاء استخدام تلك السلطة. فهل هو غير لائق ولا أمين أن يتم مزج وضم تلك السلطات المختلفة للحكومة في تلك الهيئة نفسها من الأفراد؟ إن الكونغرس، بصفته مجموعة واحدة من الأشخاص، هو المجمّع الوحيد لكافة السلطات الفدرالية. فهل من الخطير بصورة خاصة أن توضع مفاتيح الخزينة العامة، وقيادة الجيش، في يدي الأشخاص أنفسهم؟ لقد وضعت الكونفدرالية كلتا السلطتين في يدي الكونغرس. فهل إن لائحة بالحقوق شئ أساسي وضروري للحرية؟ ليس في الكونفدرالية لائحة بالحقوق. فهل تراه اعتراضاً يرفع ضد الدستور الجديد أنه يخول مجلس الشيوخ، بالاتفاق مع السلطة التنفيذية، أن يعقد اتفاقيات تغدو هي قوانين الاتحاد؟ إن الكونغرس الحالي، وبدون أي إشراف له من هذا النوع، يستطيع أن يعقد الاتفاقيات التي أعلنها أعضاؤه ووافقت عليها معظم الولايات لأن تكون القانون الأعلى في البلاد. تُرى هل استيراد الرقيق مسموح به في الدستور الجديد لمدة عشرين عاماً؟ في الدستور القديم يُسمح بذلك إلى الأبد.
قد يُقال أن مثل هذا المزج في السلطات سيكون خطيراً جداً من حيث المبدأ النظري، نعم، غير أن قدرته على إلحاق الضرر بالولايات التي ستزاوله بسبب من اعتماده الدائم على كونغرس الولايات. وذلك جراء الواسطة التي تعوزه لوضع تلك السلطات موضع التطبيق؛ وبحكم أنه مهما بلغ حجم السلطات أو اتساعها، فإن الاتحاد سيظل في واقع الحال هيئة لا حياة فيها. عند ذلك أرى أنه أولاً: سيظل الاتحاد عرضة للاتهام بأن يكون أحمق غبياً لو أعلن أن سلطات معيّنة تُمنح للحكومة الفدرالية هي ضرورية بصورة مطلقة، ثم جعل تلك السلطات في الوقت نفسه مسلوبة منها. هذا أولاً، أما في المقام الثاني، فأنا أرى أنه إذا أريد للاتحاد أن يستمر ولا يتم استبدال حكومة أفضل بالحكومة الحالية، فإنه يجب أن تخول سلطات فعالة للكونغرس الحالي أو تتم ممارستها على يديه، وفي كلا الحالين ستظل المقارنة السابقة قائمة وصحيحة. ولقد نتج من هذه الهيئة الميتة سلطة متنامية سوف تتجه إلى ظهور جميع الأخطار التي يمكن خشيتها من بنية ناقصة للحكومة العليا في الاتحاد. لم تعد الآن محور تدبر وأمل حقيقة أن المناطق الغربية هي منجم من الثروة الهائلة للولايات المتحدة. ومع أن هذه المناطق لا تستطيع إنجاء الولايات من الأسى الحاليّ، ولا أنها في المستقبل القريب سوف توفر مورداً منتظماً للنفقات العامة للاتحاد – فإنها من الآن فصاعداً يجب أن تغدو قادرة، في ظل الإدارة المناسبة، على أن تخلق تخفيضاً تدريجياً في الدين المحلي العام وأن تقدّم، لفترة معينة، روافد ليبرالية للخزينة الفدرالية. إن نسبة كبيرة جداً من الرأسمال المطلوب قد تم تقديمه من قبل ولايات بمفردها؛ ومن المعقول تماماً أن يتوقع أن تقوم الولايات المتبقية بعدم الإصرار على حجب البراهين المماثلة على أنها مساوية للأخرى في سخائها. ولنا أن نحسب، من ثم، أن بلاداً غنية وخصبة تعدل الرقعة المسكونة من الولايات المتحدة – سريعاً ما تغدو مخزوناً وطنياً هائلاً. لقد أخذ الكونغرس على عاتقه إدارة هذا المخزون. ولقد بدأ جعله منتجاً. بل لقد تعهد الكونغرس أن يفعل أكثر من ذلك، لقد بدأ في تشكيل ولايات جديدة، وإقامة حكومات مؤقتة، وفي تعيين موظفين لتلك الولايات، وفي تحديد الشروط التي على أساسها يتم قبول تلك الولايات في الاتحاد. كل هذا قد تم، وأنجز، بدون أقل سلطة أو صلاحية دستورية ولم ينفخ أي بوق للتخوف أو الإنذار. إن صندوقاً هائلاً ومستقلاً من الموارد المالية هو الآن في يديّ هيئة من الأشخاص، تستطيع حشد الجيوش بالعدد الذي تشاء، وجمع الأموال لمساندة تلك الجيوش والإنفاق عليها لمدة غير محدودة من الوقت. ومع كل ذلك، فهناك رجال لم يكتفوا بأن ظلوا متفرجين صامتين عما يجري، بل إنه الآن حماة للنظام الذي يعرض كل ما جرى؛ وفي الوقت نفسه يثيرون ضد النظام الجديد لتلك الاعتراضات التي سمعناها. هل يتصرفون بقدر من الثبات على المبدأ حين يثيرون مسالة إن إقامة ذلك النظام على الأسس التي مورست ليست ضرورة أقل قدراً إذا أريد الحرص على الاتحاد ضد السلطات والموارد المعطاة إلى هيئة تتشكل كما في الكونغرس الحالي، من حاجته إلى الإنقاذ من الأخطار التي يهدد بها عجز ذلك المجلس وعدم فعاليته؟
ولست أعني بما أقوله هنا أي نقد لأية إجراءات اتخذها الكونغرس. فأنا أعي أنه لم يكن في الإمكان التصرف بشكل آخر. فالمصلحة العامة، وإلحاح القضية، قد فرضتا على الكونغرس تجاوز حدود صلاحياته الدستورية، لكن أليست هي واقعاً وبرهاناً تنبيهياً إلى الأخطار المترتبة على وجود حكومة لا تملك صلاحيات كافية للوفاء بالأهداف المكلفة بها؟ إن التفكك أو التجاوز في السلطات هي المعضلة المخيفة التي تظل تلك الحكومة معرضة لها على الدوام.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 264-274.

العودة للصفحة الرئيسية