الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 34
الكسندر هاملتون
Alexander Hamilton
5 يناير، 1788


إلى أهالي ولاية نيويورك:
دعني أخادع نفسي فأزعم أنه تم في الورقة السابقة توضيح أن الولايات الفردية، بحسب الدستور المقترح، سوف تتمتع بسلطة مساوية لسلطة الاتحاد فيما يتعلق بموضوع الخزينة العامة إلا ما يخص المكوس على الواردات. ولما كان ذلك سيترك الجانب الأكبر من الموارد المالية في المجتمع مفتوحاً لصالح الولايات، فليس هناك أي مجال للقول بأن الولايات لن تمتلك الوسائل الكافية للوفاء بحاجاتها، وبصورة مستقلة عن أي تحكّم في ذلك من الخارج. ولسوف يظهر أن المجال واسع تماماً عندما نتطرق إلى تطوير النصيب الكبير جداً من نفقات المواطنين التي سيكون من نصيب حكومات الولايات أن توفرها وتقوم بها.
ولو تمت المناقشة على أساس المبادئ المجرّدة في أن هذه الصلاحية المنسّقة لا يمكن أن توجد بحال لكان معنى تلك المناقشة هو وضع النظرية والافتراض قبالة الحقيقة والواقع. ومهما بدا ذلك التعليل يبيّن أن هذا الأمر "لا يجب أن يوجد" فإنه تعليل يجب رفضه إذا ما تم استخدامه لإثبات أنه غير موجود فعلاً، مناقضاً في ذلك الشواهد على الحقيقة القائمة. فمن المعروف للجميع أنه في العهد الجمهوري في روما تم تسليم صلاحية التشريع آخر الأمر إلى يدي هيئتين سياسيتين مختلفتين (مجلسين)، لا بصفتهما هيئتين تشكلان فرعين من مجلس تشريعي واحد بل بصفتهما مجلسين تشريعيين كل منهما مستقل عن الآخر، وفي كل منهما تسود مصلحة نقيضة لنظيرتها في الآخر، ففي أحدهما نجد مصلحة النبلاء، وفي الثاني تبرز مصلحة المواطنين من العامّة. وما أكثر المناقشات التي أثيرت لإثبات عدم ملاءمة مثل تلك السلطات المتناقضة في الظاهر، إذ كان لكل من المجلسين القدرة على إبطال أو إلغاء أفعال المجلس الآخر وقوانينه. يومذاك كان الرجل الذي يعارض وجودهما يعتبر مجنوناً. وسيكون مفهوماً على الفور أنني هنا أشير إلى مجلس المئات ومجلس العامة. فالمجلس الأول، الذي كان يتم الاقتراع فيه على شكل مئات كان منظماً يمنح اليد العليا لمصلحة النبلاء، أما المجلس الثاني الذي كان يسود فيه عدد الأفراد كأفراد، فكانت مصلحة طبقة العامة هي صاحبة السيادة الكاملة. ومع هذا فإن ذينك المجلسين التشريعيين تعايشاً لأجيال كثيرة، وبهما بلغت جمهورية ذروة المجد والرفعة في تاريخ الإنسان .
وفي المسألة المطروحة للبحث في الوقت الحاضر ليس هنالك مثل هذا التعارض على النحو الذي ضربته في المثال، فليس هناك أي سلطة أو صلاحية في يد أي من الطرفين لإبطال أفعال وقوانين الطرف الآخر. وفي حال التطبيق العملي هناك سبب واهن للتخوف من أي إزعاج، فلن تنقضي فترة يسيرة من الزمن حتى تقلص حاجات الولايات من نفسها بصورة طبيعية وتنحصر ضمن مجال ضيق جداً. في هذه الفترة سوف تجد أكثرية الولايات المتحدة أن من الأنسب الابتعاد بالكلية عن هذه المواضيع التي قد تميل الولايات (الفردية) الخاصة إلى اللجوء إليها.
وللوصول إلى حكم مقتضب حول حسنات هذه المسألة سيكون من الأنسب الرجوع إلى حساب التناسب فيما بين الأمور التي ستتطلب تمويلاً فدرالياً من قبل الخزينة العامة، وتلك التي تتطلب تمويلاً من جانب الولاية كولاية. وسنكتشف أن الأولى غير محددة تقريباً فيما أن الأخيرة مسيجة ضمن نطاقات معتدلة. وفي تقصّي هذا الأمر، يكون علينا أن نتذكر أنه لا يجب حصر رأينا وتصوّرنا ضمن الفترة الراهنة بل علينا أن ننظر إلى المستقبل، والمستقبل البعيد أيضاً. إن دساتير الحكومات المدنيّة لا تصاغ أطرها على أساس حساب الظروف القائمة في الوقت الراهن، بل على أساس الجمع بين تلك الظروف والظروف المحتملة خلال أجيال طويلة، في ضوء المسار الطبيعي، والذي سلكته التجارب البشرية وجرّبته. ولا شئ أكثر خطراً من تحديد مدى الصلاحية المناسبة التي يجب أن تخوّل للحكومة الوطنية تبعاً لضروراتها الآنية المقدرة.. إذ يجب أن يكون هناك وسع وإمكانية للنظر إلى الظروف في المستقبل، من المحتمل أن تحدث. ولما كانت هذه الظروف المستقبلية لا يمكن وضع حدود لها، بطبيعتها، فإنه من غير المأمون أبداً وضع حدود لتلك الإمكانية. ربما كان صحيحاً أنه في المستطاع تصور حساب ذلك إلى درجة مقبولة من الدقة، حساب يلبي هدف الكم من أموال الخزينة العامة الذي يكفي لسداد ارتباطات الاتحاد، ولإدامة تسيير تلك المؤسسات، التي ستظل، لبعض الوقت في المستقبل، كافية في أوقات السلم. غير أنه: هل سيكون من الحكمة، بل ألن يكون مطلق حمق وغباء، أن نتوقف عند هذه النقطة ونترك الحكومة المكلفة برعاية الدفاع عن الوطن في وضع من العجز الكامل عن الاستعداد لحماية المجتمعات ضد اعتداءات في المستقبل تهدد السلامة العامة فيه، سواء عن طريق حرب أجنبية أو تمردات محلية؟ إذا كنا مضطرين لتجاوز هذه النقطة، أين تُرانا نتوقف، قبل تخويل الحكومة سلطة غير مقيدة للاستعداد لتلك الظروف التي ربما تنشأ؟ نعم، من السهل التأكيد، بعبارات عامة، على تكوين تقدير عقلاني، لتوفير موارد كافية ضد الأخطار المحتملة، إلا أننا بمقدورنا أن نتحدى أولئك الذين يقولون بغير ذلك بغية طرح معلوماتهم ورأيهم هذا للمناقشة، وبمقدورنا أيضاً أن نؤكد أن ذلك الرأي هو مجرد خواء وغير مؤكد، مثله مثل أي رأي يُطرح ليؤكد احتمال دوام هذا العالم. إن الملاحظات المقتصرة على آفاق الهجومات الداخلية في المستقبل ملاحظات لا قيمة لها ولا وزن، كما أنها لا تقدم حسابات أو تقديرات مقنعة. لكن، إذا قصدنا أن نكون شعباً تجارياً، فمن الواجب أن يشكل جانباً من سياستنا ان نكون قادرين يوماً على الدفاع عن تلك التجارة. عن مساندة أسطول لنا وحروب بحرية يشارك أسطولنا فيها سوف تفرض متطلبات وشروطاً تتصدى لجميع الجهود والحساب السياسي كله.
وإذا كنا نقبل دعوى أننا يجب أن نجرب الجدّة ونقدّم التجربة في مجال السياسة حول تقييد يدي حكومة الاتحاد في القيام بحروب هجومية يكون أساسها أسباباً تقدمها الولايات، فإنه من المؤكد أنه لا يجوز أن نحرم الولاية من حق التصدّي لأن يقع مجتمعها فريسة لمطامع الأمم الأخرى وعدائها. لقد ظلت هناك سحابة تحوم في سماء عالم أوروبا لفترة طويلة. ولا بد أن تنفجر تلك السحابة على صورة عاصفة، فمن الذي يضمن لنا أنها أثناء زحفها لن توقع بعض شظاياها على رؤوسنا نحن؟ ليس هناك إنسان ذو بصيرة يتسرع فيقول إننا خارج متناول يدها بالكلية. ولا من يرى أن المواد القابلة للاشتعال التي يبدو أنها تتجمع سوف تتلاشى وتذوب قبل بلوغها مرحلة النضوج، أو يزعم أنه إذا ما اشتعلت نار دون الامتداد إلى طرفنا، فلدينا ضمان بأن هدوءنا سوف يظل غير مضطرب، من جراء أي سبب آخر أو أي منطقة أخرى؟ دعنا نتذكر أن الحرب أو السلام لن يكونا على الدوام في خيارنا نحن، وأنه مهما كانت مطامحنا معتدلة فليس بمقدورنا الاعتماد بصورة دائمة على عنصر الاعتدال، ولا يجوز لنا أن نخمد جذوة طموح الآخرين. تُرى من الذي كان بمقدروه أن يتصور عند نهاية الحرب الأخيرة أن فرنسا وبريطانيا، وقد أنهكهما ما جرى، سوف تنظر إحداهما إلى الأخرى بذلك العداء الذي برز؟ إذا ما أردنا أن نحكم على أساس تاريخ البشر، سنجد أنفسنا مجبرين على أن نستنتج أن النوازع اللاهبة نحو الانغماس في حرب هي نوازع تسيطر في الفؤاد البشري بقوة أعظم كثيراً جداً مما تسيطر عليه مشاعر اللطف وحب الخير والميل إلى السلام.. وأن تخطيط نظامنا السياسي على تصورات أساسها الهدوء والاطمئنان الدائم هو تصور أساسه الإركان إلى الجانب الأضعف في طبيعة البشر.
ما هي المصادر الرئيسية للإنفاق في أية حكومة؟ ما الذي دعا إلى ذلك التراكم الهائل في الديون التي ترزح تحت عبئها معظم الدول الأوروبية؟ الجواب بكل بساطة هو الحروب والثورات؛ والإنفاق على تلك المؤسسات الضرورية لوقاية الجسد السياسي في تلك الدول ضد هذين الداءين في المجتمع. فالنفقات المترتبة من جراء تلك المؤسسات ذات العلاقة والارتباط بحفظ الأمن والرقابة في الولاية، والإنفاق على الهيئة التشريعية فيها، والسلطة التنفيذية فيها، والدوائر القضائية فيها، مع مختلف ملحقاتها جميعاً، وتشجيع النشاط الزراعي (الذي سوف يشمل جميع مواطني الولاية تقريباً) كل هذه هي نفقات غير ذات أهمية كبيرة فيما لو قورنت بالإنفاق المرتبط بالدفاع عن الوطن.
في مملكة بريطانيا العظمى، وحيث يجب توفير جميع مظاهر النظام الملوكي ليس هناك أكثر من جزء من خمسة عشر جزءاً من الدخل السنوي لبريطانيا مخصصاً لجانب الإنفاق على جميع المصالح المذكورة آنفاً فيما أن الأربعة عشر جزءاً الأخرى من الخمسة عشر تمتصها مدفوعات فوائد الديون التي تم اقتراضها لتمويل الحروب التي انغمست فيها البلاد، وفي صيانة الأساطيل والجيوش البرية. ولو اعتبرنا من جانب واحد أن المصروفات التي ترتبت على مواصلة مغامرات الطموح وملاحقة الأمجاد الفارغة للملكية ليستا معياراً على أساسه يتم الحكم بالحاجة إليهما في حال انتظام الجمهور، فإنه من جانب آخر سيكون هناك عدم تناسب ما بين الوفرة والتبذير من جانب مملكة غنية في الإدارة الداخلية لها، وما بين الشح والاقتصاد اللذين سيكونان سمة البساطة في الحكومة الجمهورية في ذلك الحال ولو وازنا إنقاصاً معقولاً في طرف واحد مما هو مفروض أن يحصل مع زيادة في الطرف المقابل فربما توصلنا إلى أن التناسب يظل سليماً ومتماسكاً.
دعنا نلقي نظرة إلى الدين الضخم الذي اضطررنا إلى دفعه نتيجة لحرب واحدة، ودعنا فقط نحسب نصيباً عاماً من الأحداث التي تشوش سلام الأمم، وسندرك على الفور، دوما أية حاجة إلى توضيح، أنه يظل هناك عدم تناسب صارخ بين أغراض الإنفاق في الولاية وأغراضه في الاتحاد الفيدرالي. صحيح أن الكثير من الولايات، بصورة فردية، مثقلة بديون ضخمة، هي إفرازات الحرب الأخيرة. لكن هذا لن يحصل مرة ثانية، فيما لو تم تبني النظام المقترح. وعند الخلاص من تلك الديون فإن الحاجة إلى الأموال المطلوبة لأي من حكومات الولايات لخدمة ما ستظل تدفعه ماليتها لتلبية حاجاتها المدنية، مضافاً إليها جميع اللوازم الضرورية – لن تبلغ (الحاجة) في مجموعها ما يتجاوز مئتي ألف جنيه لكل ولاية.
وانطلاقاً من أنه لا يمكن إنكار سداد المبدأ القائل بأنه: عند وضع أطر دستور للحكم في أمة ما يكون على تلك الأمة أن تأخذ في الحسبان تلك الشروط التي يتم اعتبارها على أنها دائمة، ولا تأخذ في الحسبان تلك الظروف التي يمكن اعتبارها مؤقتة – فإن اهتمامنا في تلك الحال سوف يتجه على تزويد حكومات الولايات بما لا يزيد عن 200 ألف جنيه سنوياً لكل منها؛ هذا عدا أن متاعب الاتحاد (ومستلزماته) لن تكون خاضعة لأي قيد أو تحديد، حتى من حيث التصور. في ضوء هذه النظرة إلى الموضوع، بأي منطق يمكن أن يؤيّد القول بأن للحكومات المحلية أن تتحكم بصورة دائمة، وتسيطر على مصدر شامل للخزينة بأي مبلغ أكثر من 200 ألف جنيه؟ إن مدّ صلاحية الولايات إلى أكثر من هذا وإقصاء صلاحية الاتحاد، معناه استلاب تلك الموارد المالية العائدة إلى المجتمع، من يدي أولئك الذين يقفون في حاجة إليها للمصلحة العامة ثم وضعها في أياد أخرى لن تكون في حاجة لها ولا مناسبة عندها لإنفاقها.
افترض، ثمة أن الميثاق أظهر ميلاً إلى مبدأ إعادة تقسيم أهداف الخزينة بين الاتحاد ككل وبين أعضائه من الولايات بحسب حاجاتها النسبية؛ أي مبدأ معيّن في التمويل يمكن انتقاؤه لتستخدمه الولايات بحيث لا يكون لديها أكثر مما يجب ولا أقل مما ينبغي – أي أقل مما يوفر حاجاتها الراهنة؛ وأكثر مما ينبغي لحاجاتها في المستقبل؟ إن الخط الفاصل بين الضرائب والمكوس الخارجية والأخرى الداخلية سوف يترك للولايات، بتقدير إجمالي، السيطرة على ثلثي موارد مجتمعاتها فيما تتحمل ما بين جزء من عشرة أو من عشرين من نفقاتها، ويترك للاتحاد ثلث موارد المجتمع ككل ليتحمل تسعة أجزاء من عشرة أو تسعة عشر جزءاً من عشرين من نفقاته. فلو تخيلنا عن هذا الهامش ورضينا أن نترك للولايات صلاحية شاملة في فرض الضرائب على المنازل والعقارات فإنه سيظل هناك تناسب ما بين الوسيلة والغاية، بين حيازة الولايات ثلث موارد المجتمع وقيامها بتوفير عشر حاجاته. إذا كان لأي صندوق مالي أن يُنتقى ويتم تنسيبه بحيث يكون مكافئاً للهدف لا أكثر منه فإنه سوف يكون غير كاف أبداً للخلاص من الديون القائمة على الولايات المعنية بالأمر، وسيترك على كاهل الاتحاد أن يسدّدها.
إن تتالي الملاحظات السابقة سوف يبرر المركز الذي سبق أن ذكر، وهو أن "التشريع الراهن في موضوع الضرائب كان هو البديل الوحيد فيما يتعلق بهذه الصلاحية لإخضاع صلاحية الولاية بكاملها إلى سيطرة الاتحاد". إن أي فصل لأغراض الخزينة العامة كان يمكن العثور عليه لربما تعاظم إلى درجة تضحية المصالح الكبرى العائدة إلى الاتحاد، لصالح الولايات الفردية. لقد اعتبر الميثاق أن التشريع الراهن أفضل من ذلك الإخضاع، ومن الواضح أنه بذلك حصل على حسنة التوفيق بين سلطة غير مقيدة لفرض الضرائب لدى الحكومة الفدرالية وبين سلطة كافية ومستقلة تتمتع بها الولايات للوفاء بحاجتها الخاصة. وتبقى بضع نقاط أخرى يحتاج موضوع فرض الضرائب هذا أن تناقش وتؤخذ في الاعتبار.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 232-238.

العودة للصفحة الرئيسية