المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 9 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: الحق في محاكمة منصفة - حراسة - حق التقاضي - حق الدفاع - دستور - دعوى دستورية - رقابة دستورية - سلطة المشرع - قانون - مبدأ المساواة - مبدأ خضوع الدولة للقانون - ملكية

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 5 أغسطس 1995 م، الموافق 8 ربيع الأول سنة 1416 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبدالرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتى

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 9 لسنة 16 قضائية "دستورية".

المقامة من

1- السيدة/ ...

2- السيدة/ ...

3- السيدة/ ...

4- السيدة/ ...

5- السيدة/ ... بصفتهن الشخصية وبصفتهن ورثة ... و...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ وزير المالية بصفته الرئيس الأعلى لجهاز تصفية الحراسات ومصلحة الضرائب

3- السيد/ رئيس جهاز تصفية الحراسات

4- السيد المستشار/ وزير العدل بصفته المشرف الأعلى لمصلحة الشهر العقاري والتوثيق

5- السيد/ مدير عام مصلحة الضرائب

6- السيد/ رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين

7- السيد/ رئيس مجلس إدارة شركة الشرق للتأمين

8- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

الإجراءات

بتاريخ 5 مارس 1994، أودعت المدعيات صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة بطلب الحكم بعدم دستورية المادة 50 من قانون حماية القيم من العيب رقم 95 لسنة 1980 فيما تقضي به من عدم جواز الطعن في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم، في شأن منازعات الحراسات المدنية المحالة إلى قضاء القيم، وفقا لأحكام القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فيها أصليا الحكم بعدم قبول الدعوى، واحتياطيا برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن رئيس الجمهورية كان قد أصدر القرار رقم 140 لسنة 1961 بفرض الحراسة على مورث المدعيات المرحوم ...، فأقمن - أمام محكمة القضاء الإداري - الدعوى رقم 2492 لسنة 35 قضائية بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ هذا القرار، وفي الموضوع بإلغائه، مع ما يترتب على ذلك من آثار، وعلى الأخص عدم الاعتداد بالتصرفات التي قد تكون الجهة الإدارية قد أبرمتها في شأن الأموال التي تناولها هذا القرار. وإذ صدر القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة، مخولا قضاء القيم الفصل في هذا النوع من المنازعات، فقد أحالت محكمة القضاء الإداري الدعوى المنظورة أمامها إلى محكمة القيم، لاختصاصها بالفصل فيها، حيث قيدت أمامها برقم 80 لسنة 2 قضائية قيم. وحيث إن البين من الأوراق، أن المدعيات كن قد أقمن كذلك الدعوى رقم 19 لسنة 5 قضائية قيم، بطلب الحكم بإلغاء عقد البيع المشهر برقم 2235 في 5/4/1972 توثيق القاهرة، والصادر عن جهاز تصفية الحراسات لشركة مصر للتأمين في شأن العقار رقم ... شارع النيل بالجيزة، وبتسليمهن عقود الإيجار التي تتعلق بهذا العقار، مع إلزام شركة مصر للتأمين بغرامة تهديدية عن كل يوم تأخير، مما حدا بتلك الشركة إلى أن تقيم ضدهن الدعوى رقم 48 لسنة 4 قضائية قيم، بطلب الحكم برد هذا العقار إليها لسبق شهر عقده، ولاكتسابها ملكيته بالتقادم الخمسي. وحيث إن محكمة القيم، أصدرت في 28/9/1986 حكمها في الدعويين المقيدتين بجدولها برقمي 48 لسنة 4 قضائية و19 لسنة 5 قضائية قيم، متضمنا أولا: في الدعوى رقم 19 لسنة 5 قضائية قيم بإلغاء عقد البيع المشهر في 5/4/1972 برقم 2235 توثيق القاهرة الصادر لشركة مصر للتأمين. وثانيا: في الدعوى 48 لسنة 4 قضائية قيم برفضها. وكانت الجهة الإدارية، وشركة مصر للتأمين كلتاهما، قد طعنتا في هذا الحكم بالطعنين رقمي 37 و38 لسنة 6 قضائية قيم عليا، على التوالي وإذ خلص قضاء المحكمة العليا للقيم بصددهما، إلى رفض ثانيهما (الطعن رقم 38 لسنة 6 قضائية قيم عليا) وإلغاء الحكم في أولهما (الطعن رقم 37 لسنة 6 قضائية قيم عليا) فيما قضى به في الدعوى رقم 19 لسنة 5 قضائية قيم، من إلغاء عقد البيع المشهر في 5/4/1972 برقم 2235 توثيق القاهرة، وذلك بالنسبة لحصتى السيدتين ... و ... - ومساحتهما ستة قراريط شيوعا في كامل أرض وبناء العقار رقم ... شارع النيل بالجيزة - وإذ كان وزير المالية ورئيس جهاز تصفية الحراسات - بصفتيهما - قد أقاما الدعوى رقم 142 لسنة 6 قضائية قيم أمام محكمة القيم، بطلب الحكم بتثبيت ملكية الدولة لهاتين الحصتين، مع تسليمهما، وأداء ريعهما إليهما، ثم عدلا من طلباتهما لتقتصر على الحكم باستحقاقها لهذا الريع. وإذ دفعت المدعيات أمام محكمة القيم بعدم دستورية نص المادة 50 من قانون حماية القيم من العيب الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1980 التي تقضي بعدم جواز الطعن في الأحكام النهائية الصادرة من المحكمة العليا للقيم عدا إعادة النظر، وكانت محكمة القيم قد صرحت لهن برفع الدعوى الدستورية - بعد تقديرها لجدية دفعهن - فقد أقمن الدعوى الماثلة.

وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول هذه الدعوى، استنادا إلى انتفاء مصلحة المدعيات في رفعها، باعتبار أن غايتها تجويز الطعن بطريق النقض في الأحكام الصادرة من المحكمة العليا للقيم، حال أن النزاع الموضوعي لا زال مرددا أمام محكمة القيم التي يجوز الطعن في أحكامها أمام المحكمة العليا للقيم. وليس للمدعيات بالتالي -"وإلى هذا الحد من النزاع الموضوعي" - مصلحة شخصية ومباشرة يثرن بها ادعاء مخالفة النص المطعون فيه للدستور.

وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة. وهو كذلك يقيد تدخلها في تلك الخصومة القضائية، ويرسم تخوم ولايتها. فلا تمتد لغير المطاعن التي يؤثر الحكم بصحتها أو بطلانها على النزاع الموضوعي، وبالقدر اللازم للفصل فيها. ومؤداه ألا تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذاالضرر وشيكا يتهددهم، أم كان قد وقع فعلا.

ويتعين دوما أن يكون هذا الضرر منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التي يقوم عليها، ممكنا تحديده وتسويته بالترضية القضائية، عائدا في مصدره إلى النص المطعون فيه، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان قد أفاد من مزاياه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة. ذلك إن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها، لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.

ولا يتصور بالتالي أن تكون الدعوى الدستورية، أداة يعبر المتداعون من خلالها عن آرائهم في الشئون التي تعنيهم بوجه عام، أو أن تكون نافذة يعرضون منها ألوانا من الصراع بعيدا عن مصالحهم الشخصية المباشرة، أو شكلا للحوار حول حقائق علمية يطرحونها لإثباتها أو نفيها، أو طريقا للدفاع عن مصالح بذواتها لا شأن للنص المطعون عليه بها. بل تباشر المحكمة الدستورية العليا ولايتها - التي كثيرا ما تؤثر في حياة الأفراد وحرماتهم وحرياتهم وأموالهم - بما يكفل فعاليتها. وشرط ذلك إعمالها عن بصر وبصيرة، فلا تقبل عليها اندفاعا، ولا تعرض عنها تراخيا، ولا تقتحم بممارستها حدودا تقع في دائرة عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. بل يتعين أن تكون رقابتها ملاذا أخيرا ونهائيا، وأن تدور وجودا وعدما مع تلك الأضرار التي تستقل بعناصرها، ويكون ممكنا إدراكها، لتكون لها ذاتيتها. ومن ثم يخرج من نطاقها ما يكون من الضرر متوهما أو منتحلا أو مجردا in abstract أو يقوم على الافتراض أو التخمين conjectural ولازم ذلك، أن يقوم الدليل جليا على اتصال الأضرار المدعى وقوعها بالنص المطعون عليه، وأن يسعى المضرور لدفعها عنه، لا ليؤمن بدعواه الدستورية - وكأصل عام - حقوق الآخرين ومصالحهم، بل ليكفل إنفاذ تلك الحقوق التي تعود فائدة صونها عليه in concerto. والتزاما بهذا الإطار، جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن المصلحة الشخصية المباشرة، شرط لقبول الدعوى الدستورية، وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية. وذلك بأن يكون الحكم في المطاعن الدستورية لازما للفصل في النزاع الموضوعي.

وحيث إن البين من الحكم الصادر من المحكمة العليا للقيم رقم 37 لسنة 6 قضائية قيم عليا، أنها تؤيد قضاء محكمة القيم في الدعوى رقم 19 لسنة 5 قضائية قيم بإلغاء عقد البيع المشهر في 5/4/1972 برقم 2235 توثيق القاهرة في شأن العقار رقم 92 شارع النيل بالجيزة، باستثناء حصتين مساحتهما ستة قراريط شائعتين في كامل أرض وبناء هذا العقار للسيدتين ... و.... وإذ فصل هذا الحكم بذلك في مسألة كلية قوامها أن هاتين السيدتين لا تملكان هاتين الحصتين، فإن قضاءها هذا لا بد أن يؤثر في الدعوى رقم 142 لسنة 6 قضائية قيم التي أقامتها الجهة الإدارية أمام محكمة القيم للحصول على ريعهما، ولا يكون أمام هاتين السيدتين من بعد، من سبيل لرد دعواها، إلا ولوج طريق الطعن في الحكم الصادر عن المحكمة العليا للقيم في الطعن رقم 37 لسنة 6 قضائية قيم عليا، وهو ما تقوم به المصلحة الشخصية المباشرة في النعي على المادة 50 من قانون حماية القيم من العيب، مخالفتها للدستور، فيما تنص عليه من عدم جواز الطعن في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم، إلا بطريق إعادة النظر.

وحيث إنه لا ينال مما تقدم، قالة أن الطعن بطريق النقض محدد في أحوال بذواتها بينها قانون المرافعات المدنية والتجارية حصرا، ولا يندرج تحتها الطعن في الأحكام الصادرة من المحكمة العليا للقيم، وذلك لأمرين: أولهما: أن الرقابة القضائية على الدستورية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا، إنما تنحصر في إنزال حكم الدستور في شأن النصوص القانونية التي تعرض عليها لقيام شبهة قوية في مخالفتها لقواعده، بما مؤداه أن المسائل الدستورية هي جوهر رقابتها، وهي التي تجيل بصرها فيها بعد إحاطتها بأبعادها، توكيدا للطبيعة العينية للدعوى الدستورية، واستصحابا لأصل الخصومة فيها، ومناطها مقابلة النصوص القانونية المدعى مخالفتها للدستور، بالقيود التي فرضها لضمان النزول عليها. ومن ثم يكون إهدار هذه النصوص بقدر تعارضها مع الدستور، إطارا وحيدا للخصومة الدستورية، وهو كذلك موضوعها، والغاية التي تبتغيها. وقضاء المحكمة الدستورية العليا ببطلان هذه النصوص أو صحتها، لا يعدو أن يكون تقريرا بتصادمها أو اتفاقها مع الدستور. وليس لها بالتالي أن تفصل في غير المسائل التي تثيرها الخصومة الدستورية، وبقدر اتصالها بالنزاع الموضوعي. ثانيهما: أن إبطال المحكمة الدستورية العليا لنص المادة 50 من قانون حماية القيم من العيب الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1980 - والتي لا تجيز الطعن في الأحكام النهائية الصادرة من المحكمة العليا للقيم إلا بطريق إعادة النظر - يعني أن هذا الحظر يناقض الدستور، وهو ما يفيد لزوما انفتاح طريق الطعن فيها تصويبا لأخطائها القانونية، إعمالا لآثار الحكم الصادر في المسائل الدستورية، ولو كان إنفاذ هذه الآثار بمقتضى تدخلا تشريعيا "لتحديد الجهة التي تفصل في هذا الطعن وكيفية تشكيلها". ذلك أن الحجية المطلقة التي أسبغها قانون المحكمة الدستورية العليا على أحكامها في المسائل الدستورية، لازمها تقيد الناس أجمعين بمضمونها. ونزول الدولة بكامل سلطاتها وتنظيماتها عليها، لتعمل بوسائلها وأدواتها - من خلال السلطة التشريعية كلما كان ذلك ضروريا - على تطبيقها.

وحيث إن المادة 6 من القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة، تقضي بأن "تختص محكمة القيم المنصوص عليها في قانون حماية القيم من العيب الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1980 دون غيرها، بنظر المنازعات المتعلقة بتحديد الأموال وقيمة التعويضات المنصوص عليها في المادة السابقة. وكذلك المنازعات الأخرى المتعلقة بالحراسات التي فرضت قبل العمل بالقانون رقم 34 لسنة 1971 بتنظيم فرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب أو المترتبة عليا، وتحال إليها جميع المنازعات المطروحة على المحاكم الأخرى بجميع درجاتها...".

وحيث إن المناعي التي يثيرها الطعن الراهن، تتحصل في إهدار النص المطعون فيه مبدأ المساواة أمام القانون، والإخلال بضمانة الدفاع، وحق التقاضي، واستقلال السلطة القضائية، وما يجب الالتزام به في شأن تحديد اختصاص محاكمها، ذلك أن النزاع الموضوعي أحيل إلى محكمة القيم إعمالا لنص المادة 6 من القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة، ويثير هذا النزاع وفقا لحكمها حقوقا تدور حول الملكية التي تختص أصلا جهة القضاء العادي بالفصل فيها ابتدائيا واستئنافيا، وكذلك من خلال تقعيد مسائل القانون بصددها. إذ كان ذلك، وكان عرض النزاع على محكمة القيم ثم المحكمة العليا للقيم - وأن جاز أن يحمل على أنهما درجتان من درجات التقاضي، أولاهما ابتدائية وثانيتهما استئنافية - إلا أن إنغلاق طريق الطعن - على صعيد مسائل القانون - في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم، يعني أن من تحملوا بالتدابير التي فرضتها الدولة عليهم لإخضاع أموالهم لحراستها، أسوأ حالا ممن انحسرت عنهم هذه التدابير، وإن كانوا جميعا يملكون أموالا، ويسعون لرد العدوان عليها.

وحيث إن المواثيق الدولية - وفي مقدمتها ميثاق الأمم المتحدة - تؤكد عزم الدول على إرساء مفهوم للعدالة لا ينفصل عن محتواها، ويكون كافلا لملامحها، لازما لإنفاذ متطلباتها، ضمانا لحقوق مواطنيها وتأمينا لحرياتهم. كذلك فإن الأسس الموضوعية لقواعد إدارتها، ينافيها كل تمييز ينال منها.

وحيث إن الدستور بما نص عليه في المادة 68 منه، من ضمان حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لرد ما قد يقع من عدوان على الحقوق التي يدعيها، قد دل على أمرين. أولهما: أن لكل مواطن أن يسعى بدعواه إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيأ دون غيره للفصل فيها. ثانيهما: أن الناس جميعا لا يتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في النفاذ إلى قاضيهم الطبيعي، ولا في نطاق القواعد الإجرائية والموضوعية التي تحكم الخصومة القضائية عينها، ولا في فعالية ضمانة الدفاع التي يكفلها الدستور والمشرع للحقوق التي يدعونها، ولا في اقتضائها وفق مقاييس موحدة عند توافر شروط طلبها، ولا في طرق الطعن التي تنتظمها. بل يجب أن يكون للحقوق عينها، قواعد موحدة سواء في مجال التداعي بشأنها، أو الدفاع عنها، أو استئدائها، أو الطعن في الأحكام التي تتعلق بها. ولا يجوز بالتالى أن يقيم المشرع فيما بين المواطنين، تمييزا غير مبرر في شأن إعمال هذه القواعد، بما يعطلها لفريق من بينهم أو يقيدها، وبوجه خاص على صعيد الفصل بطريقة منصفة في حقوقهم المدنية والتزاماتهم. يؤيد ذلك أن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هي في واقعها أوثق اتصالا بالحقوق التي تتناولها، سواء في مجال إثباتها أو نفيها أو توصيفها، ليكون مصيرها عائدا أساسا إلى انفتاح هذه الطرق أو انغلاقها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين المتحدة مراكزهم القانونية identically situated في مجال النفاذ إلى فرصها.

وحيث إن السلطة التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق، وإن كان الأصل فيها هو إطلاقها، إلا أن القيود التي قد يفرضها الدستور لصون هذه الحقوق من صور العدوان المحتمل عليها، هي التي تبين تخوم الدائرة التي لا يجوز أن يتداخل التنظيم التشريعي فيها هادما للحقوق التي يكفلها الدستور، أو مؤثرا في محتواها بما ينال منها. ومن ثم تمثل هذه الدائرة مجالا حيويا لا يتنفس الحق إلا من خلالها، ولا يكون تنظيم هذا الحق ممكنا من زاوية دستورية إلا فيما وراء حدودها الخارجية، ليكون اقتحامها مجانبا لتنظيمه، وعدوانا عليه أدخل إلى مصادرته أو تقييده. كذلك لا يجوز أن تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها المشرع موضوعا محددا عن أهدافها، بل يجب أن تكون هذه النصوص مدخلا إليها، وموطئا لإشباع مصلحة عامة لها اعتبارها appropriate means to justifiable ends.

ومرد ذلك، أن كل تنظيم تشريعي لا يصدر عن فراغ، ولا يعتبر مقصودا لذاته. بل مرماه إنفاد أغراض بعينها يتوخاها، وتعكس مشروعيتها إطارا للمصلحة العامة التي أقام المشرع عليها هذا التنظيم باعتباره أداة تحقيقها، وطريق الوصول إليها.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في المواد 1 و3 و4 من قيام نظام الحكم على أساس ديموقراطي، ومباشرة الشعب لحقوق السيادة في الحدود التي نص عليها، قد دل على أنه في مجال حقوق المواطنين وحرياتهم، فإن مضمون القاعدة القانونية التي تسمو في الدولة القانونية عليها، وتتقيد هي بها، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التي التزمتها الدول الديمقراطية باطراد في مجتمعاتها، واستقر العمل فيما بينها على انتهاجها في مختلف مظاهر سلوكها، باعتبار أن التقيد بها مفترض أولى لتوكيد خضوعها للقانون، وبما لا إخلال فيه بتلك الحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية - ووفقا لمعايير تطبيقها لديها - معبرا عن إقرارها لضماناتها، ونزولها بالقيود عليها إلى الحدود التي تقتضيها الضرورة، وبما لا يعطل جوهرها essential core، إنفاذا لفعاليتها، واستيفاء لدورها في مجال إشباع المصالح المرتبطة بها. ويندرج تحتها أن يكون لكل شخص حق مكتمل ومتكافئ مع غيره، في محاكمة علنية ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقله محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، بما يعكس المقاييس المعاصرة التي تلتزمها الأمم المتحضرة في تنظيماتها، وبوجه خاص تلك التي تتصل بتشكيل محاكمها، وقواعد إدارتها، والأشكال الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملا، والتكلفة المطلوبة لخدماتها، وبما لا يخل في إطارها بضمانة الدفاع التي تتكافأ للخصوم معها أسلحتهم، equality of arms، ويؤمن المحامون على ضوئها مصالح موكليهم، ويرعون حدودها، وفق أصول المهنة ومتطلباتها، وبما لا ينحدر بضوابط ممارستها إلى حد إهدار مستوياتها الموضوعية التي يفترض أن يكون التقيد بها، كافلا لدورهم بوصفهم شركاء للسلطة القضائية في النهوض برسالتها. وإذ كان الدستور - بالنصوص التي صاغها لإرساء ضمانة الدفاع - يفترض ألا يكون دور المحامين شكليا أو رمزيا، متخاذلا أو قاصرا عن أن يقدموا لموكليهم تلك المعاونة الفعالة التي يقتضيها صون حقوقهم، فإن التدخل تشريعيا بما يعوق إنفاذ موجباتها - كإغلاق طريق الطعن بالنسبة إلى فئة ممن يملكون، وحرمان أفرادها بالتالي من فرص الدفاع عن حقوقهم أو من بعض جوانبها - يكون كذلك ممتنعا دستوريا.

وحيث إن الدستور - إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيدا لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي - كفل بالمادتين 32 و34 حمايتها لكل فرد - وطنيا كان أم أجنبيا - ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة - في الأعم من الأحوال - إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضروريا لصونها، معبدا بها الطريق إلى التقدم، كافلا للتنمية أهم أدواتها، محققا من خلالها إرادة الإقدام، هاجعا إليها لتوفر ظروفا أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئنا في كنفها إلى يومه وغده، مهيمنا عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته في شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، ليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التي تعينها على أداء دورها، وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها.

ولم يعد جائزا بالتالي أن ينال المشرع من عناصرها، ولا أن يغير من طبيعتها، أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضماناتها الجوهرية، ويكون العدوان عليها غصبا، وافتئاتا على كيانها أدخل إلى مصادرتها.

وبقدر اتساع قاعدة الملكية تتعدد روافدها، وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهرا يتدفق بمصادر الثروة القومية التي لا يجوز إهدارها، أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديدا لقيمتها، ولا تنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها، وضرورة تقييدها نأيا بها عن الانتهاز، أو الإضرار بحقوق الآخرين. ذلك أن الملكية - في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة - لم تعد حقا مطلقا، ولا هي عصية على التنظيم التشريعي. وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها.

ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية. وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكما، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعي معين، في بيئة بذاتها لها توجهاتها ومقوماتها، وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية، للحد من إطلاقها، لا تعتبر مقصودة لذاتها، بل غايتها خير الفرد والجماعة.

وحيث إن البين من اختصاص محكمة القيم - محددا وفقا لنص المادة 6 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة - أن الحقوق المثارة في الدعاوى التي يتعلق بها هذا الاختصاص، تدور جميعها حول الملكية الفردية التي كفل الدستور صونها، واختصها بالحماية المنصوص عليها في المادتين 32 و34، ذلك أن المنازعات التي تنشأ عن الحراسات المفروضة قبل العمل بالقانون رقم 34 لسنة 1971 - بتنظيم فرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب - أو المترتبة عليها، محورها أموال الأشخاص الذين اخضعتهم أوامر الجهة الإدارية الصادرة عنها وفقا لقانون الطوارئ، لتلك التدابير، ليقع عبؤها عليهم تارة، أو عليهم مع عائلاتهم بالتبعية طورا آخر.

وقد صدر القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 آنف البيان، بعد أن كانت جهات القضاء على اختلافها قد استقر أمرها على انهدام الأوامر الصادرة بفرض الحراسة على أموال الأشخاص الطبيعيين استنادا إلى أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 في شأن حالة الطوارئ، وانعدام آثارها. وإذ كان إعمال آثار هذه الأحكام في شأن تلك الأوامر، مؤداه أن ترد الأموال التي تناولتها - وبأكملها - إلى أصحابها عينا، وكان استئثارهم بها قد انطوى - في تقدير المشرع - على الإضرار بأخرين ظلوا يحوزونها مددا طويلة رتبوا خلالها - وعلى أساسها - حقهم في العيش والحياة الآمنة، فقد تدخل المشرع للحد من جريان هذه الآثار على إطلاقها، ضمانا للسلام الاجتماعي، وصونا لبعض الأوضاع السياسية والاقتصادية القومية. واقتضاه ذلك أن يلجأ - استثناء - إلى تعويضهم عن بعض أموالهم وفق معايير قدر ألا يكون تطبيقها منطويا على مصادرة كلية أو جزئية للحق في التعويض. وهو استثناء ظل قائما في الحدود التي بينها المشرع، ومرتبطا بأموال بذواتها لا يتعداها إلى غيرها. ومن ثم كان منطقيا أن يردد هذا القرار بقانون، الأصل العام في شأن أموال الخاضعين لتلك التدابير، ممثلا في ردها عينا إليهم، وأن ينص في مادته الأولى - واستصحابا لهذا الأصل - على أن "تعتبر كأن لم تكن الأوامر الصادرة بفرض الحراسة على الأشخاص الطبيعيين وعائلاتهم وورثتهم استنادا إلى أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 في شأن حالة الطوارئ، وتتم إزالة الآثار المترتبة على ذلك على الوجه المبين في هذا القانون". مقننا بذلك ما استقر عليه القضاء من قبل من اعتبار هذه الأوامر متضمنة عيبا جسيما يفقدها مقوماتها لصدورها عارية عن سندها من خلال عدوانها على الملكية الخاصة التي عنى الدستور بصونها، وهو ما ينحدر بتلك الأوامر إلى مرتبة الأعمال المادية عديمة الأثر قانونا، ويجردها من محتواها، ومن مشروعيتها الدستورية، لتنحل عدما.

ولئن صح القول بأن جانبا من الأموال التي شملتها التدابير المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا القرار بقانون، قد استثنتها مادته الثانية من قاعدة الرد العيني مع تعويض أصحابها عنها وفقا للأسس التي حددتها، إلا أن قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن هذا الاستثناء - وعلى ما يبين من حكمها الصادر في الدعويين رقمي 139 و140 لسنة 5 قضائية "دستورية " جاء قاطعا بأن التعويض المقرر عن الأموال التي تناولها، ليس معادلا لقيمتها الحقيقية، وهو ما يعني بالضرورة، رد تلك الأموال إلى أصحابها دون قيد. ثانيها: أن اختصاص محكمة القيم - محددا على ضوء نص المادة 6 من القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 المشار إليه - لا يتعلق إلا بالملكية الخاصة فصلا في ثبوتها أو انتفاء الحق فيها، وكان الأصل في الملكية أنها تعتبر حقا دائما، فلا تزول بالتراخي في استعمالها أمدا ولو كان بعيدا، بل يظل صاحبها متمتعا بالحق في حمايتها، وأن ترد إليه عند اغتصابها، غير مقيد في ذلك بزمن معين، إلا إذا آل الحق فيها إلى غيره وفقا للقانون، وكان من المقرر كذلك أن الحماية التي أضفاها الدستور على الملكية الخاصة لضمان صونها من العدوان، لا تنحصر في الملكية الفردية كحق عيني أصلي تتفرع عنه الحقوق العينية جميعها، ويعتبر أوسعها وجماعها، بل تمتد هذه الحماية إلى الأموال كلها - ودون تمييز بينها - بإعتبار أن المال هو الحق ذو القيمة المالية، سواء أكان هذا الحق شخصيا، أم عينيا، أم كان من حقوق الملكية الإدبية أو الفنية أو الصناعية. متى كان ذلك، فإن حقوق الملكية في مختلف صورها - وأيا كان سبب نشوئها أو انتقالها إلى الغير - تشملها الحماية الدستورية المنصوص عليها في المادتين 32 و43، وهي في مجال اختصاص قضاء القيم بالفصل فيها، يتعين أن تحكمها القواعد القانونية عينها عند توافر شروط تطبيقها، وبوجه خاص على صعيد الطعن في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم، إذ لا يجوز أن يكون هذا الطريق مفتوحا لفئة ممن يملكون، ومحجوبا عن نظرائهم. وحيث إنه لا ينال مما تقدم، قالة أن المحكمة العليا للقيم - بوصفها درجة استثنافية لمحكمة القيم - إنما تفصل في أنواع بذاتها من المنازعات التي تستقل بخصائصها التي تمنحها ذاتيتها، وتتمثل في انصرافها إلى الأشخاص الطبيعيين المشولين بتلك التدابير الاستثنائية التي فرضتها الدولة عليهم لإخضاع أموالهم لحراستها، وأنهم بسببها - ترتيبا فيها - يعتبرون في مركز قانونيا مغاير لمن لم تشملهم هذه التدابير، ويدعون ملكية أموال يقيمون دعوى الاستحقاق لطلبها، لا محل لما تقدم، ذلك أن هؤلاء وهؤلاء يطلبون رد أموالهم إليهم - أيا كان سبب تملكهم لها - ولا يتمايزون عن بعضهم البعض إلا في واقعة بعينها تعد منعدمة في ذاتها من زاوية في شأنهم نكالا، لإخراج بعض أموالهم من أيدهم ختالا، وهو ما يندرج تحت اغتصابها.

ومن غير المتصور أن تكون الواقعة المنعدمة، مرتبة لأية آثار في محيط العلائق القانونية، ذلك أن انعدامها إفناء لذاتيتها يقتلعها من منابتها، ويجتثها من قواعدها، ليحيلها هباء منثورا، فلا تولد حقا، ولا يتعلق بها التزام، بعد أن هدمها الدستور، وجردها من كل أثر، لتكون هشيما. ولا يسوغ بالتالي أن تؤول واقعة أعدمها الدستور، إلى الانتقاص من حقوق هؤلاء الذين ناءوا بعبئها. إذ كان ذلك، وكان التمييز بين المراكز القانونية بعضها البعض، يفترض تغايرها - ولو في بعض جوانبها - لتتنافر أجزاؤها، فلا تتحد العناصر التي تكونها، وكان من المقرر قانونا أن كل واقعة منعدمة لا استواء لها، فليس لها من عمد ترفعها، ولا من كيان يقيمها، ولا قرار لها، بل تنهدم من أساسها لتفقد وجودها من مبدئها، إذ هي ساقطة في ذاتها، فلا وضع لها، ولا اعتداد بها، وحسبها أنها غير شيء. متى كان ذلك، فإن مثل هذه الواقعة التي تقوم - في إطار النزاع الراهن - على فرض الحراسة على أموال الأشخاص الطبيعيين وممتلكاتهم وفقا لأحكام قانون الطوارئ، لا تدخل في تكوين المراكز القانونية التي لا تعتبر كذلك "إلا بافتراض مشروعية عناصرها جميعا". ولا يتصور بالتالي أن يستقيم بها التباين بين مركزين قانونيين، ذلك أن انعدامها لا يضيفها إلى أيهما، ولا يخول أحدا أن ينتقص من القواعد الإجرائية والموضوعية التي حددها الدستور لإسباغ الحماية الواجبة لحق الملكية وذلك لأمرين. أولهما: أن صون الملكية من زاوية القواعد الإجرائية والموضوعية التي بسطها الدستور والمشرع عليها، لا ينفصل عن مبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور محددا وفق المقاييس المعمول بها في الدول الديمقراطية، ومعززا باستقلال القضاة وحصانتهم كضمانين أساسيين يكفلان حقوق المواطنين وحرياتهم، ذلك أن الدولة القانونية هي التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها بقواعد تعلو عليها، وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها، لتهيمن عليها محددة طرائقها ومضموناتها.

يؤيد ذلك، أن السلطة - أيا كان موقعها أو توجهها - لم تعد امتيازا شخصيا لأحد يمارسها تعاليا أو استبدادا، بل يباشرها من يتقلدها نيابة عن الجماعة ولصالحها، وتقيدا بقيمها، وكان من الحتم بالتالي أن يقوم بنيان الدول جميعها - ومن خلال التزامها بالمفهوم المعاصر للديمقراطية، وسعيها لبناء الشخصية المتكاملة لمواطنيها - على مبدأ مشروعية السلطة The principle of de jure legitimate authority، معززا بمبدأ الخضوع المتكافئ للقانون Equal subjection to the rule of law، ليعملا معا كمبدأين متكاملين متساندين، ضمانا لتنظيم السلطة وفق أسس محددة، لا تخرج بها عن أهدافها انحرافا، ولا تميل بممارستها عدوانا، لتظل القاعدة القانونية محورا لكل عمل، وإطارا يبين حدود الدائرة التي لا يجوز لأحد أن ينال منها، ورادعا ضد العدوان. ولأن الدولة القانونية دون غيرها، هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها - ومن خلال نظمها - الضمانة الأولية والمبدئية، لصون الحقوق والحريات التي كفلها الدستور والقانون، فلا تختص فئة ممن يملكون بحقوق يستقلون بها، ولو كان من حرموا منها يساوونهم فيها. ثانيهما: أن مبدأ المساواة أمام القانون، أساس للعدل، وهو أدخل إلى جوهر الحرية، وأكفل لإرساء السلام الاجتماعى. ولئن جاز القول بأن الأصل في كل تنظيم تشريعي أن يكون منطويا على تقسيم أو تصنيف Classification أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو المزايا التي يمنحها لفئة دون غيرها؛ إلا أن اتفاق هذا التنظيم مع أحكام الدستور، يفترض ألا تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها المشرع موضوعا محددا، عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التي توخاها، بالوسائل إليها، منطقيا، وليس واهيا أو واهنا، بما يخل بالأسس الموضوعية التي يقوم عليها التمييز المبرر دستوريا. Classification is inherent in legislation in that legislators may select different persons or groups for different treatment. However, the state may not rely on a classification whose relationship to an asserted goal is so attenuated as to render the distinction arbitrary or irrational كذلك فإن صور التمييز التي تناقض مبدأ المساواة أمام القانون، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد، ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بأنكار أصل وجودها، أو من خلال تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانونا للانتفاع بها. Equality before the law requires an abscence of discriminatory treatment except for those in different circumstances. ولا شبهة في أن من يملكون، يجب أن يكونوا جميعا محاطين بالوسائل الإجرائية عينها التي يقتضيها الدفاع عن حقوقهم، ذلك أن حرمان بعضهم منها دون مسوغ، عدوان على حق الملكية من خلال تقليص فرص حمايتها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان النص المطعون فيه، قد اختص الفئه التي تعلق بها مجال تطبيقه، بمعاملة استثنائية جائرة تفتقر إلى الأسس الموضوعية التي تسوغها، بأن حرمها من فرص الطعن في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم، لتقويم ما يكون قد اختل من قضائها في مجال تطبيقها للقانون على النزاع المعروض عليها، وكان انغلاق طريق الطعن فيها بالنسبة إلى هذه الفئة، مؤداه تجريد أموالها من صورة بذاتها من صور الحماية التي كان ينبغي بسطها عليها، ليكون المتماثلون في مراكزهم القانونية، متمتعين بالحقوق عينها، وكان النص المطعون فيه - فوق هذا - قد أخل بضمانة الدفاع في بعض جوانبها، وبضرورة الفصل في حقوق المواطنين والتزاماتهم المدنية وفق قواعد تكون منصفة في ذاتها، وبمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وبخضوع الدولة لأحكامه، فإن هذا النص، يكون مخالفا لأحكام المواد 32 و34 و40 و64 و65 و68 و69 و165 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة 50 من قانون حماية القيم من العيب الصادر بالقانون رقم 95 لسنة 1980 وذلك فيما تضمنته من حظر الطعن - بغير طريق إعادة النظر - في الأحكام النهائية الصادرة عن المحكمة العليا للقيم في شأن المنازعات المحالة إلى قضاء القيم وفقا لنص المادة 6 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 141 لسنة 1981 بتصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة. وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية