المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 86 لسنة 18 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: تنظيم نقابي - حرية الاجتماع - حرية شخصية - دستور - دعوى دستورية - قانون - محاماة - ملكية - مهن

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 6 ديسمبر سنة 1997 م، الموافق 6 شعبان سنة 1418 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ سامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 86 لسنة 18 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية 

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيد المستشار/ وزير العدل

4- السيد الأستاذ/ نقيب المحامين

الإجراءات

بتاريخ 24 يوليه سنة 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية البندين السادس والثامن من المادة 13 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1973، والبند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14، وكذلك البند الثاني من المادة 126 والمادتين 167 و172 من هذا القانون.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد تقدم لنقابة المحامين بعد أن حصل على ليسانس الحقوق، طالبا قيده كمحام تحت التمرين، إلا أن لجنة قبول المحامين لم تفصل في طلبه خلال المدة التي حددها القانون مرجئة قيده إلى أن يشطب قيده من نقابة المهندسين، وتقبل استقالته من شركة قطاع الأعمال العام التي يعمل بها وقد طعن المدعي في قرار لجنة قبول المحامين أمام محكمة استئناف القاهرة عملا بالمادة 19 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1973، طالبا الحكم بقبول قيده بهذه النقابة كمحام تحت التمرين، ورد الفروق التي تم تحصيلها منه دون حق مقابل رسم القيد والاشتراك، ثم دفع أثناء نظر دعواه هذه، بعدم دستورية البندين السادس والثامن من الفقرة الأولى من المادة 13، وكذلك البند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14؛ والبند الثاني من المادة 126؛ والمادتين 167 و172 من قانون المحاماة وإذ تبين لمحكمة الموضوع، جدية هذا الدفع، فقد أعادت الدعوى إلى المرافعة حتى يتخذ المدعي إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.

وحيث إن المواد المطعون عليها تقضي بالآتي: البندان السادس والثامن من الفقرة الأولى من المادة 13:

يشترط فيمن يطلب قيد اسمه في الجدول العام أن يكون: 1- ... 2- ... 3- ... 4- ... 5- ...

6- ألا يكون عضوا عاملا في نقابة مهنية أخرى.

7- ...

8- ألا تقوم بشأنه حالة من حالات عدم جواز الجمع الواردة في المادة التالية.

البند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14:

لا يجوز الجمع بين المحاماة والأعمال الآتية:

3- الوظائف العامة في الحكومة والهيئات العامة والإدارة المحلية والوظائف في شركات القطاع العام أو الوظائف الخاصة، فيما عدا العمل بالإدارة القانونية المصرح لها بذلك طبقا لأحكام هذا القانون، وفيما عدا أساتذة القانون في الجامعات المصرية في الحالات التي يجيزها هذا القانون.

ولا تعد العضوية في اللجان الحكومية العلمية أو المؤقتة أو القيام بمهام ذات صفة عرضية لا تستغرق أكثر من ستة شهور، أو الندب لتدريس القانون في الجامعات والمعاهد العليا، وظيفة يحظر معها الجمع بينها وبين المحاماة.

البند الثاني من المادة 126: علاوة على ما ورد بشأنه نص خاص في هذا القانون، تختص الجمعية العمومية في اجتماعها السنوي بما يأتي: 

2- تعديل رسوم القيد والاشتراك ورسوم الدمغة التي يؤديها المحامون لصالح النقابة بناء على اقتراح مجلس النقابة.

مادة 167:

على المحامى أن يؤدي عند التقدم بطلب قيد اسمه في الجدول العام أو بأحد الجداول الملحقة به رسم القيد المقرر للجدول الذي يريد قيد اسمه به، مع رسوم القيد بالجداول السابقة إذا لم يكن قد أداها.

مادة 172: لا ترد رسوم القيد التي تدفع للنقابة، على أن للجنة القبول المختصة أن تأذن برد رسوم القيد إذا كان رفض الطلب لسبب لا يرجع إلى تقصير في استيفاء شروط القيد.

ولا تقبل طلبات استرداد رسوم القيد والاشتراكات بعد انتهاء السنة المالية التالية للسنة التي دفعت فيها.

وحيث إن المدعي ينعى على النصوص المطعون عليها مخالفتها للدستور، مستندا في ذلك إلى عدة وجوه:

أولها: أن مهنة المحاماة مهنة حرة تقتضي جهدا عقليا من القائمين عليها، ويمارسها المحامون من أجل الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم في استقلال، لا سلطان عليهم في أدائها إلا لضمائرهم وحكم القانون. وقيده بنقابة المهندسين لا يناقض ممارسة مهنة المحاماة التي يجب أن يكون النفاذ إليها قائما على تكافؤ الفرص، مكفولا لكل من يطرقون أبوابها، غير مقيدين في ذلك إلا بالشروط الموضوعية التي ضبط بها المشرع مزاولتها على ضوء اتصالها بخصائص هذه المهنة ومتطلباتها.

ثانيها: أن حظر القيد في أكثر من نقابة، لا يلتئم والقواعد المعمول بها في النقابات المهنية الأخرى التي تكتفي تشريعاتها بمجرد الحصول على المؤهل العلمي كشرط لعضويتها، لاسيما وأن النقابات المهنية جميعها تتفق فيما بينها في أهدافها. ولا يعدو حرمان العضو العامل في نقابة مهنية من القيد في غيرها، أن يكون مصادرة لحق الانضمام إليها، وليس تنظيما لشئونها، خاصة وأن عضويته بنقابة المهندسين لا تشكل أدنى إساءة لمهنة المحاماة، ولا تخل بكرامتها.

ثالثها: أن حظر الجمع بين العمل الوظيفي - سواء في الحكومة أو قطاع الأعمال العام - والاشتغال بالمحاماة، مبناه أن المحامين راغبون في أن تكون مهنة المحاماة وقفا عليهم لا يزاحمهم أحد في مزاولتها، ويناقض كذلك ما هو قائم في قانون المحاماة من الترخيص بمزاولتها لمحامي الإدارات القانونية، وهم من العاملين في جهاتهم. هذا فضلا عن أن المدعي في إجازة من جهة عمله الأصلية، وقد ظل دوما بعيدا عن العمل النقابي بنقابة المهندسين، مباشرا عملا نظيرا لأعمال خبراء وزارة العدل وقانون المحاماة يتضمن تمييزا غير مبرر بين من كان عمله السابق غير مرتبط بالانضمام إلى نقابة مهنية من جهة؛ ومن كان هذا العمل مترتبا على عضويتها من جهة أخرى، إذ لا يحصل ثانيهما دون أولهما على معاش عن عمله السابق.

رابعها: أن الحصول على الدرجة العلمية التي تؤهل للقيد بنقابة المحامين، ليس إلا ثمرة البحث العلمي الذي حرص الدستور على الحض عليه والإبداع فيه، وينبغي أن يكون الحصول على هذا المؤهل وحده كافيا للقيد بنقابة المحامين. وأية شروط أخرى يتطلبها المشرع لمزاولتها كتلك المنصوص عليها في البندين السادس والثامن من الفقرة الأولى من المادة 13، والبند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14 من قانون المحاماة، تعتبر دخيلة عليها، ومجاوزة كذلك الأحكام التي تضمنتها المواد 4 و7 و8 و13 و23 و40 و49 و56 و68 و69 من الدستور.

خامسها: أن رسوم القيد في نقابة المحامين، تزيد بكثير على مثيلاتها في غيرها، وقد ربط قانون المحاماة مقدارها بالسن في شرائح تصاعدية جاوز بها الأسس المنطقية التي ينبغي أن تتحدد على ضوئها. وقد خول هذا القانون كذلك الجمعية العمومية للنقابة سلطة تعديل رسوم القيد بها وفق ما تراه هي مناسبا وما تقرر بهذا القانون من إسقاط الحق في استرداد رسوم القيد بعد انتهاء السنة المالية التالية للسنة التي تم دفعها خلالها، لا يستقيم عقلا ولا قانونا ويناقض تقرير هذه الرسوم كذلك الحدود التي تطلبها الدستور في مجال الفرائض المالية، بما مؤداه مخالفة البند الثاني من المادة 126، والمادتين 167 و172 من قانون المحاماة، لأحكام المواد 40 و61 و119 من الدستور.

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلا بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازما للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان من المقرر أن مجرد مخالفة نص قانوني للدستور، لا يقيم شرط المصلحة الشخصية المباشرة، فلا ينهض سببا لتوافرها، وإنما ينبغي لتحققها أن يكون المدعي قد أضير من جراء تطبيق النص القانوني الذي يدعي مخالفته للدستور، أو كان احتمال إضرار هذا النص به راجحا.

وحيث إن النزاع الموضوعي يدور حول ما إذا كان يجوز لنقابة المحامين أن ترجئ الفصل في طلب القيد المقدم إليها من المدعي إلى أن يتخلى عن عضويته بنقابة المهندسين، وعن عمله بالجهة التي التحق بها؛ وكان هذان الشرطان اللذان تطلبهما قانون المحاماة لإمكان قبول قيده بنقابتها، مقررين بمقتضى البندين السادس والثامن من الفقرة الأولى من المادة 13، والبند الثالث من المادة 14 من هذا القانون؛ فإن مصلحته الشخصية المباشرة في مجال اتصالها بشروط القيد، تنحصر في هذه البنود.

وحيث إن من المقرر أن حرية الانضمام إلى جمعية أو جماعة من أجل أن يدافع من يلوذون بها عن معتقداتهم أو آرائهم، تعد جزءا لا يتجزأ من حرياتهم الشخصية، سواء كانت آراؤهم أو معتقداتهم التي يريدون الدفاع عنها أو إنماءها، تندرج تحت المسائل السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية، فلا يجوز لسلطة أن تعرقل طرحها أو نقلها إلى آخرين، وإلا كان لهذه المحكمة أن تفرض رقابتها الصارمة على هذه الأشكال من التدخل التي لا يظاهرها الدستور بعد أن كفل بالمواد 46 و47 و48 و49 و63 حرية العقيدة، وحرية التعبير عن الآراء، وحرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام، وكذلك حق الناس جميعا في أن يتقدموا إلى السلطة العامة بظلاماتهم يعرضونها دون وجل، كي يردوا عنهم جورا أو عدوانا أحاط بهم وما حرية الاجتماع إلا إطارا منظما يسع التعبير عن هذه الحريات والحقوق جميعها، فلا يكون إلا كافلا جوهرها، ميسرا إنفاذها، ضامنا فعاليتها، وعلى الأخص كلما كان التعبير عن الآراء واقعا في محيطها المتصل بالمسائل العامة التي تقتضي بصرا بأبعادها، وعمقا في عرض جوانبها، وصلابة في تعرية نواحي القصور فيها. وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن ثمة علاقة وثيقة Close nexus بين حرية القول وحرية الاجتماع؛ وأن الاجتماع مع آخرين من أجل عرض آرائهم وتطويرها ضرورة يقتضيها تنظيم الأفراد لنشاطهم فلا تتعثر جهودهم، بل يكون تكتلها طريقا إلى النفاذ إلى الحقائق على اختلافها بما يحول دون كتمانها أو التجهيل بها، أو تقليص دائرتها. بل إن حرية الاجتماع ذاتها هي التي يتفرع عنها حقهم في بناء تنظيم مشروع يضمهم، وعلى الأخص كلما كان هذا التنظيم سياسيا أو نقابيا، فلا يحمل الفرد على اختيار تنظيم منها دون آخر، ولا على التخلي عن عضويته في تنظيم قائم، ولا على الإعراض عن إنشاء تنظيم جديد يراه أكفل للدفاع عن المصالح السياسية أو الاقتصادية التي يؤمن بها. ولا يجوز بالتالي أن تفرض السلطة التشريعية على حرية الاجتماع قيودا من أجل تنظيمها، إلا إذا حملتها عليها مشروعية المصالح التي وجهتها لتقريرها، وكان لها كذلك سند من ثقلها وضرورتها؛ وكان تدخلها - من خلال هذه القيود - بقدر حدة هذه المصالح ومداها The Validity of governmental regulation must be determined by assessing the degree of infringement of the right of association against the legitimacy, strength, and the necessity of the governmental interests and the means of implementing these interests. وما تجريه السلطة التشريعية من أعمال التحقيق، ولو بقصد تطوير معلوماتها في مجال إعدادها لتشريعاتها، يظل أمرا محظورا كذلك، إذا كان من شأنها تأثيم عرض الآراء والأفكار أو ردعها، وعلى الأخص عن طريق اجتماع يعبر عنها.

وحيث إن مفاد ذلك، أن تكوين التنظيم النقابي - مهنيا كان أم عماليا - فرع من حرية الاجتماع التي لا تجوز إعاقتها بقيود جائرة لا تندرج تحت تنظيمها، وإنما تعتبر عدوانا عليها يعطلها أو ينال من دائرة ممارستها ويجب بالتالي أن يكون تكوين هذا التنظيم عملا إراديا، فلا يكون الانضمام إلى نقابة بذاتها ولا تركها عملا قسريا، وإنما تتمثل الحرية النقابية التي كفلها الدستور بنص المادة 56، في إرادة اختيار المنظمة النقابية التي يطمئن الشخص إليها، ولو من خلال إنهاء عضويته في إحداها إيثارا لغيرها؛ وكذلك في انتقاء أكثر من منظمة - عند تعددها - لينضم إليها جميعا إذا كان مستوفيا شروط القيد في كل منها، وفي أن ينعزل عنها بأكملها، فلا يلج أيا من أبوابها.

وانبثاق هذه الحقوق عن الحرية النقابية مبناه أنها من ركائزها، وأنها لا تخل بحق النقابة ذاتها في أن تقرر بنفسها أهدافها ووسائل تحقيقها وطرق تمويلها وإرساء القواعد التي تنظم شئونها. ولا تعارض الحرية النقابية - محددا مفهومها على النحو المتقدم - ديموقراطية العمل النقابي، ذلك أن الديموقراطية النقابية هي التي تطرح بوسائلها وتوجهاتها نطاقا للحماية يكفل لقوة العمل - أيا كان موقعها - مصالحها الرئيسية، وينفض عن تجمعاتها عوامل الجمود، وهي كذلك مفترض أولى لوجود حركة نقابية تستقل بذاتيتها ومناحي نشاطها، فلا تتسلط عليها جهة إدارية، ولا تعلق تأسيسها على إذنها، ولا تتدخل في شئونها بما يعوقها عن إدارة نشاطها، ولا تحل نفسها محل المنظمة النقابية فيما تراه هي ميسرا مصالح أعضائها، ولا أن تفرض وصايتها عليها، أو تقرر عقابها بإنهاء وجودها.

وينبغي بالتالي أن يعامل مبدأ الحرية النقابية باعتباره لازما لاستقرار المهنيين والعمال وتطوير أوضاعهم، أيا كان قطاع عملهم، ودون تمييز فيما بينهم في مجال تكوين منظماتهم، واختيار تلك التي ينضمون إليها أو يتسلبون منها، فلا يردون عنها أو يساقون إليها بناء على توجهاتهم السياسية أو انتماءاتهم أيا كان لونها.

وحيث إن مجتمعا مدنيا هو الإطار الوحيد لكل تنظيم نقابي، وهو يكون كذلك إذا كان منفتحا لكل الآراء، قائما على فرص حقيقية لتداولها وتفاعلها، بما يوفق بينها قدر الإمكان أو يبدلها بغيرها، فلا يكون العمل النقابي إملاء أو التواء، بل تراضيا والتزاما، وإلا كان مجاوزا الحدود التي ينبغي أن يترسمها Ultra Virus Actions. وهذه القيم التي يرعاها التنظيم النقابي هي التي كرسها الدستور بنص المادة 56، التي تحتم أن يكون هذا التنظيم قائما وفق مقاييس ديموقراطية يكون القانون كافلا لها، توكيدا لأهمية وخطورة المصالح التي يمثلها، وعمق اتصالها بالحقوق المقررة قانونا لأعضائها، فلا ينحاز العمل النقابي لمصالح جانبية لبعضهم محدودة أهميتها، بل يكون تقدميا بالضرورة، متبنيا نهجا مقبولا من جموعهم، وقابلا للتغيير على ضوء إرادتهم.

وحيث إن حق النقابة ذاتها في تكوينها وفق أسس ديموقراطية، وكذلك إدارتها لشئونها بما يكفل استقلالها، ويقظتها في الدفاع عن مصالح أعضائها، وتطويرها للقيم التي يدعون إليها في إطار أهدافها، ووعيها بما يعنيهم، ومراجعتها لسلوكهم، لا يخولها العدوان على حقوق كفلها الدستور، ويندرج تحتها حق كل مواطن في الانضمام إلى أكثر من نقابة كلما كان مستوفيا شروط القيد في كل منها، وتوكيد أن الحق في العمل لا يتقرر إيثارا، ولا يمنح تفضلا. ذلك أن الشرعية الدستورية هي التي تضبط الأعمال جميعها وتحيط بكل صورها، وإليها ترد النصوص القانونية التي تنظم العمل النقابي، فلا يباشره أحد انحرافا عنها، أو تنصلا منها.

وحيث إن البند السادس من الفقرة الأولى من المادة 13 من قانون المحاماة المطعون عليه، قد شرط للقيد في الجدول العام ألا يكون طالب القيد، عضوا عاملا في نقابة مهنية أخرى؛ وكان حق الانضمام إلى أكثر من نقابة مهنية، من الأسس الجوهرية التي تكفلها الحرية النقابية - بما تشتمل عليه من حق العمل - وتقتضيها كذلك إرادة الاختيار التي تفرضها الحرية الشخصية، وتعززها حرية الاجتماع التي اعتبرها الدستور إطارا لتعدد الآراء وتقابلها وتفاعلها وتقييمها انحيازا لأكثرها قبولا، فإن حكم هذا البند يكون مخالفا للمواد 13 و47 و54 و56 من الدستور.

وحيث إن البند الثامن من الفقرة الأولى من المادة 13 من قانون المحاماة بعد ربطها بالبند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14 من هذا القانون، يتطلبان للقيد في الجدول العام بنقابة المحامين، ألا يكون طالب القيد عاملا في إحدى شركات القطاع العام - التي حلت محلها شركات قطاع الأعمال العام - فيما عدا العمل بإدارتها القانونية المصرح لها بذلك طبقا لأحكام قانون المحاماة، وباستثناء أساتذة القانون في الجامعات المصرية في الأحوال التي يجيزها هذا القانون.

وحيث إنه عملا بنص المادة الثانية من قانون المحاماة، يعد محاميا كل من يقيد بجداول المحامين التي ينظمها هذا القانون، ولا يجوز إطلاق هذه الصفة على غير هؤلاء فيما عدا المحامين بهيئة قضايا الدولة؛ وكان من المقرر وفقا للمادة الثالثة من هذا القانون، أن المحامين وحدهم هم الذين يزاولون أعمال المحاماة التي عددتها؛ فإن القيد في الجداول التي نظمها قانون المحاماة، يعتبر شرطا لممارستها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الشروط التي يتطلبها المشرع لمزاولة مهنة بذاتها، يجب أن ترتبط عقلا بخصائصها، وما يكون لازما لممارستها، فلا يفرضها المشرع بعيدا عن متطلباتها، أو انحرافا عن صدق اتصالها بأوضاعها، أو بما يفقد عناصر بيئتها ما ينبغي أن يهيمن عليها من توافق، ذلك أن لكل حق بنيانا يحدد محتواه، ودائرة يمتد إليها، وآثارا يرتبها، من بينها أن حق العمل ليس مطلبا ثانويا، وأن الشروط التي يتم في نطاقها يجمعها أن يكون منصفا وإنسانيا ومواتيا، ومهيأ لتطور أكثر كمالا. وانتزاع هذه الشروط قسرا من محيطها، يفقدها مغزاها، ويقصيها عن الأسس الموضوعية التي ينبغي أن تكون قواما لها.

وحيث إن قانون المحاماة قد دل بالنصوص التي تضمنها على أن المحاماة - في أصلها وجوهر قواعدها - مهنة حرة يمارسها المحامون وحدهم في استقلال، لا سلطان عليهم في مزاولتها والنهوض بتبعاتها لغير ضمائرهم وحكم القانون؛ وكان قانون المحاماة قد قرن استقلالهم باستقلال السلطة القضائية، فاعتبر المحامين شركاء لها يعينونها على إيصال الحقوق لذويها في إطار من سيادة القانون وقيم العدل التي يكفلون من خلالها الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم (المادة الأولي من قانون المحاماة)؛ وكان استقلال المحامين في أداء أعمالهم واحتكامهم إلى ضمائرهم وسلطان القانون دون غيرهما، ينفي بالضرورة تبعيتهم لجهة عمل تتولى توجيههم وفرض رقابتها عليهم، ومؤداه أنهم لا يتلقون عن جهدهم أجرا محددا على ضوء علاقة عمل، بل تعتبر وكالتهم عن موكليهم، وكذلك أصول مهنتهم وضوابط ممارستها، محددة لواجباتهم قبل عملائهم، ومصدرا للحقوق التي تنتجها؛ وكان قانون المحاماة يتطلب ألا يكون طالب القيد عاملا بالحكومة أو بجهة مشبهة بها، أو بوحدة اقتصادية لقطاع الأعمال؛ وكان هذا الشرط لا يعتبر منافيا للأوضاع المنطقية التي تتخذها مهنة المحاماة إطارا لمزاولتها، ومناطها استقلال المحامين في مباشرة شئونها، وإدارتهم الدفاع عن موكليهم على ضوء تقديراتهم وخياراتهم التي يستقلون بها، فإن ذلك الشرط لا يكون مخالفا للدستور. مما يتعين معه رفض الدعوى في هذا الشق.

وحيث إنه لا ينال مما تقدم استثناء أساتذة القانون في الجامعات المصرية من الشرط المبين بالبند الثامن من الفقرة الأولى من المادة 13 من قانون المحاماة، والمحدد تفصيلا بالبند الثالث من الفقرة الأولى من المادة 14 من هذا القانون، ذلك أن المشرع قدر أن مهنة المحاماة يثريها ويدعمها انضمام هؤلاء إليها باعتبارهم أقدر على الإبداع والتأصيل، وتأسيس دفاع مقتدر يعتمد على اتساع خبراتهم، وإحاطتهم بفروع القانون على اختلافها، وتعمقهم لأغوارها، واتصالهم بأدق مسائلها، فلا يكون إسهامهم في أعمالها إلا عونا على إدارة العدالة بما يقيمها على صحيح بنيانها. كذلك فإن استثناء المحامين بالإدارات القانونية المصرح لهم بمزاولة المحاماة وفقا للقانون، مرده أن هؤلاء لا يزاولون أعمال المحاماة لغير الجهة التي يعملون بها، وبحكم وظائفهم فيها، ولا يتولون إلا الأعمال ذاتها التي تنفرد بها مهنة المحاماة، وتقوم عليها.

وحيث إن قانون المحاماة قرر بنص الفقرة الأولى من المادة 172 منه قاعدة مفادها ألا ترد رسوم القيد التي تدفع للنقابة، وأجاز استثناء منها للجنة القبول أن تأذن برد رسوم القيد إذا كان رفض الطلب لا يعود إلى تقصير في استيفاء شروط القيد وقضى هذا القانون في الفقرة الثانية من المادة ذاتها، بألا تقبل طلبات استرداد رسوم القيد والاشتراكات بعد انتهاء السنة المالية التالية للسنة المالية التي دفعت فيها.

وحيث إن الحماية التي أسبغها الدستور على حق الملكية بمقتضى المادتين 32 و34 منه، تمتد - وعلى ما جرى قضاء هذه المحكمة - إلى الحقوق جميعها الشخصية منها والعينية، وكذلك إلى حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية؛ وكانت هذه الحماية تقيم توازنا بين الملكية في ذاتها والقيود التي يجوز فرضها عليها، فلا ترهقها تدابير لا تتصل بوظيفتها الاجتماعية بما يفقد الملكية محتواها، أو يعتصر جانبا من مقوماتها؛ وكانت الحقوق الشخصية قوامها رابطة بين شخصين يجوز للدائن بمقتضاها أن يحمل مدينه على إعطاء شئ أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل؛ وكان حق المدعي في أن ترد إليه الأموال التي دفعها مقابلا للقيد في الجدول العام لنقابة المحامين، من الحقوق الشخصية؛ فإن امتناع قيده في هذا الجدول بناء على نص قانوني صحيح دستوريا، يكون مستوجبا ردها؛ لا استثناء من ذلك، أيا كانت الأعذار التي تنتحلها نقابة المحامين للتخلص من التزامها بالرد.

وحيث إن كل استثناء من قاعدة كلية يفترض وجودها، فإذا أبطلتها هذه المحكمة، سقط الاستثناء منها، وكانت القاعدة التي قررتها الفقرة الأولى من المادة 172 من قانون المحاماة في شأن امتناع رد رسوم القيد أصلا، هي التي هدمتها هذه المحكمة، فإن زوال الاستثناء منها مؤداه ألا تقوم قائمة للاختصاص المخول للجنة القبول، والمنصوص عليه بهذه الفقرة.

وحيث إن مناعي المدعي في شأن الفقرة الثانية من المادة 172 من قانون المحاماة، تفترض لجواز الخوض فيها، أن يكون المدعي قد طلب رد رسوم القيد التي دفعها بعد انقضاء الميعاد المحدد قانونا بمقتضى هذه الفقرة لاقتضائها، فإذا كان قد طلبها قبل انتهاء هذا الميعاد - مثلما هو الحال في النزاع الراهن - فإن مصلحته في الطعن على تلك الفقرة، تكون منتفية، ولا تقبل دعواه في هذا الشق بالتالي.

وحيث إن هذه المحكمة لا يجوز أن تبدد وقتها وجهدها من خلال مواجهتها لنزاع عار عن أن يكون حقيقيا وقائما A sufficiently real and actual dispute مستكملا محتواه، ماثلا بعناصره Well - developed، ومحددا تحديدا كافيا يتهيأ به الفصل فيه Specific to elicit adjudication بما مؤداه انتفاء اتصالها بنزاع لازال في دور التكوين Not yet fully born أو أجهض قبل التداعي Already dead، تقديرا بأن قبولها للخصومة الدستورية يرتبط بتكامل عناصرها، فلا يكون أمرها نظريا No hypothetical أو مجردا No abstract، بل تلح حدتها وتفرض وجودها على أطرافها Concrete dispute between adverse parties بما يؤكد نضجها Ripeness وتماسكها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة في الدعوى الماثلة، قد خلص إلى أن قيد المدعي في الجدول العام لنقابة المحامين - وبوصفه محاميا تحت التمرين - لا يجوز قبل تخليه عن عمله في الوحدة الاقتصادية كرئيس لقطاع الشئون الفنية بها، وكان الاختصاص المخول للجمعية العمومية للنقابة بمقتضى البند الثاني من المادة 126 من قانون المحاماة في شأن تعديل رسوم القيد ورسوم الدمغة التي يؤديها المحامون لصالح نقابتهم، يفترض تعلق هذا التعديل بمن يكونون مقيدين بجداولها، فإن الفصل في دستورية مباشرة الجمعية العمومية لهذا الاختصاص، يكون سابقا لأوانه، فلا تقبل دعواه كذلك في هذا الشق منها.

وحيث إنه على ضوء ما تقدم، فإن المواد المطعون عليها - وبقدر تعارضها مع الدستور على ما سلف البيان - تكون مخالفة للأحكام المنصوص عليها في المواد 32 و34 و41 و47 و49 و54 و56 منه.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:

أولا: بعدم دستورية البند السادس من الفقرة الأولى من المادة 13 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983.

ثانيا: بعدم دستورية الأصل المقرر بمقتضى المادة 172 من هذا القانون في شأن عدم رد رسوم القيد التي تدفع للنقابة، وبسقوط الاستثناء من هذا الأصل.

ثالثا: بإلزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية