المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 79 لسنة 18 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: أحوال شخصية - أسرة - حق التقاضي - دستور - دعوى دستورية - قانون

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 6 ديسمبر سنة 1997 م، الموافق 6 شعبان سنة 1418 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ سامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 79 لسنة 18 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيدة/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيد/ رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب

4- السيد/ بطريرك الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة

5- السيد الدكتور/ ...

الإجراءات

بتاريخ 14 يوليه سنة 1996، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبة الحكم بعدم دستورية المادتين رقمي 139 و169 من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة سنة 1938.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وقدم المدعى عليه الخامس مذكرة طلب فيها الحكم بعدم قبول الدعوى لانعدام مصلحة وصفة المدعية، وفي الموضوع برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعية تزوجت المدعى عليه الخامس بموجب العقد الكنسي الموثق على شريعة الأقباط الأرثوذكس التي ينتمي الطرفان إليها، ودخل بها وعاشرها معاشرة الأزواج حتى أنجب منها ولدهما ... في 13/2/1981 وإذ نشب خلاف بينهما، فقد أقام زوجها ضدها الدعوى رقم 120 لسنة 1992 أمام محكمة الدقي الجزئية للأحوال الشخصية طالبا في صحيفتها الحكم بضم ابنهما إليه، بعد أن بلغ أقصى سن للحضانة عملا بنص المادة 139 من لائحة الأقباط الأرثوذكس لعام 1938 وقد قضت المحكمة في هذه الدعوى بعدم اختصاصها بنظرها وبإحالتها إلى محكمة النزهة للأحوال الشخصية، حيث قيدت بجدول محكمة مصر الجديدة الجزئية للأحوال الشخصية (الدائرة الملية) تحت رقم 512 لسنة 1993، ثم قضي فيها بضم الصغير إلى والده. وقد استأنفت المدعية هذا الحكم تحت رقم 1044 لسنة 1994، إلا أن استئنافها قضي برفضه مع تأييد الحكم المطعون فيه.

وتلا ذلك رفع الدعوى رقم 10 لسنة 1996 ملي مصر الجديدة التي أقامها ولدهما ضد والده، طالبا فيها - وبصفة مستعجلة - بوقف تنفيذ الحكم الصادر في الدعوى رقم 512 لسنة 1993 ملى جزئي مصر الجديدة لحين الفصل في دعواه هذه؛ وبصفة أصلية بمنع والده من التعرض له بمقتضى حكم الضم الصادر في الدعوى رقم 512 لسنة 1993، وذلك تأسيسا على أنه بلغ الخامسة عشرة من عمره، وصار بذلك بالغا وفقا للراجح من مذهب أبي حنيفة المعمول به طبقا لنص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية.

كذلك أقامت المدعية الدعوى رقم 448 لسنة 1995 أمام محكمة مصر الجديدة الجزئية للأحوال الشخصية (الدائرة الملية) ضد زوجها طالبة منع تعرضه لولدهما بمقتضى الحكم المؤيد استئنافا الصادر في الدعوى رقم 512 لسنة 1993 جزئي ملي مصر الجديدة، وذلك استنادا منها إلى أن أمر ولدهما صار بيده، وله بذلك أن يقيم وحده أو مع من يختاره من أبويه؛ وجاحدة ما نصت عليه المادة 169 من لائحة الأقباط الأرثوذكس من استمرار ولاية الوالد على ولده حتى الحادية والعشرين من عمره.

وأثناء نظر هذه الدعوى، دفع وكيلها بعدم دستورية نص المادتين 139، 169 من لائحة الأقباط الأرثوذكس وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، وصرحت للمدعية باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فأقامت الدعوى الماثلة.

وحيث إن المادة 139 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس التي أقرها المجلس الملي العام، والمعمول بها اعتبارا من 8 يوليو 1938 تقضي في فقرتها الأولى بأن تنتهي الحضانة ببلوغ الصبي سبع سنين، وبلوغ الصبية تسع سنين، وحينئذ يسلم الصغير إلى أبيه، أو عند عدمه إلى من له الولاية على نفسه. وفي فقرتها الثانية بأنه إذا لم يكن للصغير ولي، يترك عند الحاضنة إلى أن يرى المجلس من هو أولى منها باستلامه.

وحيث إن المادة 169 من هذه اللائحة تقضي بأن تنتهي الولاية "التي عرفتها المادة 159 منها، بأنها قيام شخص رشيد عاقل بشئون القاصر أو من في حكمه سواء ما كان منها متعلقا بالنفس أو المال" متى بلغ القاصر من العمر إحدى وعشرين سنة ميلادية، إلا إذا قرر المجلس استمرارها.

وحيث إن هذه المحكمة كانت قد انتهت بحكمها الصادر في 1/3/1997 إلى عدم دستورية نص المادة 139 من لائحة الأقباط الأرثوذكس المعمول بها اعتبارا من 8/7/1938، وقد نشر حكمها هذا بالعدد رقم 13 في الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 13/3/1997؛ وكانت أحكامها في الدعاوى الدستورية - أيا كان مضمون حكمها أو المسائل التي تناولتها فيها - تحوز حجية كاملة في مواجهة الدولة بكل أفرعها وسلطاتها، وقبل كل الجهات القضائية على اختلافها، فلا تملك إحداها مراجعتها فيه، ولا أن تعيد النظر فيما انتهت إليه، فإن الخصومة الماثلة بالنسبة إلى هذا الشق من الدعوى الماثلة، تكون منتهية.

وحيث إن المدعية تنعى على المادة 169 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، أن مؤداها انتفاء أهلية الصغير عن نفسه أو ماله ما لم يبلغ الحادية والعشرين من عمره، وهو ما يناقض نص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية التي تقضي بأن تصدر الأحكام طبقا للمدون في هذه اللائحة، ولأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة ماعدا الأحوال التي ينص فيها قانون المحاكم الشرعية على قواعد خاصة، فيجب أن تصدر الأحكام طبقا لتلك القواعد وإذ خلت تلك اللائحة والتشريعات الخاصة، من قاعدة محددة في شأن السن التي تنتهي عندها الولاية على النفس، فإنه يتعين الرجوع في شأن تحديدها إلى ما تقرر وفقا للراجح في المذهب الحنفي من انتهاء الولاية على النفس ببلوغ الصغير - ذكرا كان أم أنثى - خمس عشرة سنة، وهي السن التي يكون للصغير عندها أن يقاضى وأن يختصم، وأن يكون بالخيار بين أن يقيم عند أحد أبويه أو أن يستقل عنهما وإذ جرى النص المطعون فيه على غير هذا النظر، مقيما تمييزا تحكميا بين أبناء الوطن الواحد، فإنه يكون بذلك مخالفا لنص المادة 40 من الدستور. بل إن النص المطعون فيه أهدر كذلك ما تنص عليها المادة 10 من الدستور، التي تقضي بأن ترعى الدولة النشء وتوفر لهم ظروفا مناسبة لتنمية ملكاتهم.

وحيث إن المدعى عليه الخامس جحد مصلحة المدعية في إثارة النزاع الماثل، على أساس أن الخصومة الدستورية لا تقبل من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم، سواء أكان هذا الضرر وشيكا يتهددهم، أم كان قد وقع فعلا؛ فإذا لم يكن النص المطعون فيه قد طبق أصلا على المدعية، فلا يتصور أن يكون قد أخل بأحد الحقوق التي كفلها الدستور لها.

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلا بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازما للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكانت المدعية تنازع في مباشرة زوجها لولايته على ولدهما، وتسعى لدفعها من خلال دعواها الموضوعية التي تطلب فيها ألا يتعرض لابنه بعد أن بلغ الخامسة عشرة من عمره، وصار بذلك مهيمنا على شئون نفسه يستقل بها من دون أبيه، فلا يقيم عنده إلا باختياره، فإن مصلحتها في الدعوى الماثلة تكون متوافرة. ضمانا لتواصل علاقتها بابنها، فلا تنفصم عراها أو تهن رابطتها، بل يكون توثقها وترسخها من خلال بقاء ابنها في كنفها، إذا اختار أن يلوذ بها.

وحيث إن تحديد ما يدخل في نطاق مسائل الأحوال الشخصية - وفي مجال التمييز بينها وبين الأحوال العينية - وإن ظل أمرا مختلفا عليه، إلا أن أوضاع الولاية على النفس - وهي تتعلق بنظام الأسرة - تدخل في نطاق هذه المسائل، فتحكمها  قواعدها.

وحيث إن غبطة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية كان قد أفاد بكتابه إلى هيئة المفوضين بالمحكمة المؤرخ 11/9/1997 بأن ما احتواه نص المادة 169 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، من تحديد سن تنتهي به الولاية على نفس القاصر متى بلغ إحدى وعشرين سنة ميلادية مع وجود سن آخر يحكم ذات المسألة بالنسبة لانتهاء الولاية عند إخوتهم المسلمين في ذات الوطن، يناقض أصل المساواة بينهم في مسائل مردها لا إلى نصوص دينية، بل إلى أوضاع المجتمع ما كان منها طبيعيا أو بيئيا أو اجتماعيا، مما يقتضي إخضاعهم لقاعدة موحدة تجمعهم.

وحيث إن المجالس الملية هي التي كان لها اختصاص الفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وكان تطبيقها لشرائعهم الدينية مقارنا لاختصاصها بالفصل في نزاعاتهم المتصلة بأحوالهم الشخصية، فلا يكون قانونها الموضوعي إلا قانونا دينيا. وظل هذا الاختصاص ثابتا لهذه المجالس إلى أن صدر القانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية، فقد قضى هذا القانون في مادته الأولى بأن تلغى المحاكم الشرعية والملية ابتداء من 1/1/1956، على أن تحال الدعاوى التي كانت منظورة أمامها حتى 31/12/1955 إلى المحاكم الوطنية لاستمرار نظرها وفقا لأحكام قانون المرافعات.

ولئن وحد هذا القانون بذلك جهة القضاء التي عهد إليها بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم، فحصرها - وأيا كانت ديانتهم - في جهة القضاء الوطني، إلا أن القواعد الموضوعية التي ينبغي تطبيقها على منازعاتهم في شئون أحوالهم الشخصية، لا تزال غير موحدة، رغم تشتتها وبعثرتها بين مظان وجودها، وغموض بعضها أحيانا. ذلك أن الفقرة الأولى من المادة 6 من هذا القانون تقضي بأن تصدر الأحكام في منازعات الأحوال الشخصية التي كانت أصلا من اختصاص المحاكم الشرعية طبقا لما هو مقرر بنص المادة 280 من لائحة ترتيبها. وتنص فقرتها الثانية على أنه فيما يتعلق بالمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين، الذين تتحد طائفتهم وملتهم، وتكون لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون، فإن الفصل فيها يتم - في نطاق النظام العام - طبقا لشريعتهم.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أنه فيما عدا الدائرة المحدودة التي وحد المشرع في نطاقها القواعد الموضوعية في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم - كتلك التي تتعلق بمواريثهم ووصاياهم وأهليتهم - فإن المصريين غير المسلمين لا يحتكمون لغير شرائعهم الدينية بالشروط التي حددها القانون رقم 462 لسنة 1955 المشار إليه، بل إن المادة 7 من هذا القانون تنص على أن تغيير الطائفة أو الملة بما يخرج أحد الخصوم عن وحدة طائفية إلى أخرى أثناء سير الدعوى، لا يؤثر في تطبيق الفقرة الثانية من المادة 6 من هذا القانون، ما لم يكن التغيير إلى الإسلام.

وحيث إن المشرع، وقد أحال في شأن الأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين - وفي إطار القواعد الموضوعية التي تنظمها - إلى شرائعهم مستلزما تطبيقها دون غيرها في كل ما يتصل بها، فإن المشرع يكون قد ارتقى بالقواعد التي تضمنتها هذه الشرائع، إلى مرتبة القواعد القانونية التي ينضبط بها المخاطبون بأحكامها، فلا يحيدون عنها في مختلف مظاهره سلوكهم. ويندرج تحتها - وفي نطاق الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس - لائحتهم التي أقرها المجلس الملي العام بجلسته المنعقدة في 9 مايو 1938، والتي عمل بها اعتبارا من 8 يوليه 1938، إذ تعتبر القواعد التي احتوتها لائحتهم هذه - وعلى ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 6 من القانون رقم 462 لسنة 1955 المشار إليه - شريعتهم التي تنظم أصلا مسائل أحوالهم الشخصية، بما مؤداه خضوعها للرقابة الدستورية التي تتولاها هذه المحكمة.

وحيث إن الولاية على النفس تتمحض عن سلطة شرعية يباشرها شخص على غيره، وهي بذلك ولاية متعديه لا ذاتية يمارسها الأولياء في شأن الصغار ليتموا بها أعمالا بدأتها حاضنتهم من النساء في مجال رعايتهم تعليما وتوجيها وتأديبا وتهذيبا حتى يصير الصغير المولى عليه مهيأ للحياة، متصلا بأسبابها، ميسرا لحقائقها، نابذا شرورها، متجنبا أوضارها من خلال انتهاج الفضائل بقيمها العليا، فلا يكون الصغير مظلوما أو مضيعا أو منبوذا أو سقيما.

وحيث إنه متى كان ذلك، وكانت الولاية على النفس التي يؤديها من يباشرونها بحقها، غايتها أن تحفظ للصغار دينهم وخلقهم، وأن تقيم نوازعهم على سوائها، وأبدانهم وعقولهم على ما يصححها وينميها؛ وكان دور حاضنتهم قبل بلوغهم سن التمييز، وإن كان أظهر من دور أوليائهم، إلا أن يد هؤلاء عليهم - بعد مجاوزتهم لهذه السن - أبعد سلطانا وأحد أثرا.

فإذا استقام عودهم، دبروا أمرهم خير ما يكون التدبير، وحسن مجتمعهم، فلا يكون متباغضا متباعدا أبناؤه عن بعضهم البعض، بل تظلهم وحدة الوطن انتماء ومصيرا. ومن ثم كان اختيار الأولياء ومراقبتهم، شرطا لازما لضمان شرعية تصرفاتهم، وكان حق الصغار في أن يضموا إليهم كافلا مصلحتهم، فلا ينزعون بغير حق من أيديهم.

وحيث إن الأصل أن تظل الولاية على نفس الصغير قائمة ما بقي الولي مستوفيا لشروطها، وما ظل سببها ممتدا ببقاء زمنها. ومن ثم كان بلوغ النكاح نهايتها كلما كان الصغر سببها، وبمراعاة أن الأنوثة - ومن غير ارتباطها بصغر أو بآفة عقلية - تعد بذاتها سببا للولاية على النفس؛ وكان بلوغ الصغير راشدا ليس متطلبا في غير الولاية على المال لقوله عز وجل "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا، فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا"؛ وكان بلوغ الصغير بلوغا طبيعيا - وهو المقصود ببلوغ النكاح - لا يظهر إلا بالإمارة التي تدل عليه، فإن هي لم تظهر، اعتد في تقدير بلوغ الصغير وانتهاء ولاية النفس عليه بالتالي، بالسن التي اختلف الفقهاء في شأن بيانها، وإن قدرها أبو يوسف ومحمد بالخامسة عشر، وعليها استقر الراجح من مذهب أبي حنيفة باعتبارها حدا زمنيا لانتهاء الولاية على النفس، إذا لم يدع الصغير البلوغ الطبيعي قبلها، وكان الظاهر لا يكذبه، وبشرط أن يكون الصغير قد بلغها مأمونا على نفسه، وعندئذ يكون بالخيار بين أن يستقل بالسكنى عن أبويه، أو أن يقيم مع من يختاره منهما.

وحيث إن تحديد سن لانتهاء الولاية على نفس الصغير وفقا للراجح من مذهب أبي حنيفة، وأن تعلق بالمسلمين من المصريين؛ وكان هذا التحديد أوثق اتصالا بمصلحة الصغير في مسألة لا تتصل بأصول العقيدة وجوهر بنيانها؛ وكان لا يجوز في غير المسائل التي حسمتها نصوص دينية مقطوع بثبوتها ودلالتها، أن يمايز المشرع في مجال ضبطها بين المصريين تبعا لديانتهم، تقديرا بأن الأصل هو تساويهم جميعا في الحقوق التي يتمتعون بها وكذلك على صعيد واجباتهم؛ وكانت الأسرة القبطية هي ذاتها الأسرة المسلمة فيما خلا الأصول الكلية لعقيدة كل منهما، تجمعهما القيم والتقاليد عينها، وإلى مجتمعهم يفيئون تقيدا بالأسس التي يقوم عليها في مقوماتها وخصائصها، وتعبيرا عن انصهارهم في إطار أمتهم، ونأيهم عن اصطناع الفواصل التي تفرقهم أو الدعوة إليها، فقد صار أمرا محتوما ألا يمايز المشرع بينهم في مجال الولاية على النفس التي تتحد مراكزهم بشأنها سواء في موجباتها أو حد انتهائها، وإلا كان هذا التمييز منفلتا عن الحدود المنطقية التي ينبغي أن يترسمها، ومخالفا بالتالي لنص المادة 40 من الدستور، ومجاوزا كذلك الحق في الحرية الشخصية التي يكون التماس وسائلها - ويندرج انتهاء الولاية على النفس تحتها - مطلبا لكل مواطن وفقا لنص المادة 41 من الدستور.

وحيث إن الدستور قد دل بالمواد 9 و10 و11 و12 منه على أن للجماعة مقوماتها الأساسية التي لا يجوز أن ينعزل بنيان الأسرة عنها، باعتبار أن تكوينها وصونها على امتداد مراحل بقائها، أكفل لوحدتها، وأدعى لاتصال أفرادها ببعض من خلال روافد لا انقطاع لجريانها يتصدرها إرساء أمومتها وطفولتها بما يحفظها ويرعاها؛ والتوفيق بين عمل المرأة في مجتمعها وواجباتها في نطاق أسرتها؛ وبمراعاة طابعها الأصيل بوصفها الوحدة الأولى التي تكفل لمجتمعها تلك القيم والتقاليد التي يستظلون بها.

وهذه الأسرة ذاتها - وبغض النظر عن عقيدة أطرافها - لا يصلحها مباشرة الأولياء لولايتهم على أنفس الصغار دون ما ضرورة، ولا مجاوزتهم مقاصد ولايتهم هذه بما يخرجها عن طبيعتها، ويمزجها بالولاية على المال سواء في سبب نشوئها أو انتهائها، وإنما ينبغي أن يكون لكل من الولايتين دوافعها وشروط انقضائها، فلا يتزاحمان مع بعضهما. وشرط ذلك أن يكون للولاية على أنفس الصغار زمنها، فلا يكون بقاؤها مجاوزا تلك الحدود المنطقية التي تقتضيها مصلحتهم في أن يمارس أولياؤهم عليهم إشرافا ضروريا لتقويمهم، ولا أقل مما يكون لازما لاعتمادهم على أنفسهم في مجال الاتصال بالحياة، وولوج طرائقها واختيار أنماطها. ومن ثم يكون بلوغ الصغير بلوغا طبيعيا كافيا لزوالها، وإلا كان بلوغ السن التي يتهيأ عندها لتدبير أمره، منهيا لها وتلك هي القاعدة الموحدة التي ينبغي لكل أسرة التزامها، ضمانا لترابطها واتساق نسيجها مع مجتمعها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الناس لا يتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في اللجوء إلى قاضيهم الطبيعي؛ ولا في نطاق القواعد الموضوعية والإجرائية التي تحكم الخصومة عينها؛ ولا في فعالية ضمانة الدفاع التي يكفلها الدستور للحقوق التي يطلبونها؛ ولا في اقتضائها وفق مقاييس واحدة عند توافر شروط طلبها؛ ولا في طرق الطعن التي تنتظمها، بل يجب أن يكون للحقوق ذاتها، قواعد موحدة سواء في مجال التداعي بشأنها، أو الدفاع عنها، أو استئدائها، أو الطعن في الأحكام الصادرة فصلا فيها. ولا يجوز بالتالي أن يعطل المشرع إعمال هذه القواعد في شأن فئة بذاتها من المواطنين؛ ولا أن يقلص دور الخصومة القضائية التي يعتبر ضمان الحق فيها، والنفاذ إليها، طريقا وحيدا لمباشرة حق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور؛ ولا أن يجرد هذه الخصومة من الترضية القضائية التي يعتبر إهدارها أو تهوينها، إخلالا بالحماية التي يكفلها الدستور للحقوق جميعها.

وحيث إن لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس - وعلى ما يبين من نص المادتين 159، 169 منها - لا تفرق بين الولاية على النفس والولاية على المال، بل تنهيهما معا عند الحادية والعشرين إذا بلغها الصغير سويا، وإلا كان للمجلس الملي العام أن يبقيها لمدة تزيد عليها أيا كان مقدارها؛ وكان ذلك مؤداه حرمان أم الصغير الذي اختار أن يبقى معها بعد الخامسة عشرة، أو قبلها بالبلوغ الطبيعي، في أن تتخذ الوسائل القضائية التي ترد بها صغيرها إليها، فلا يكون إلا في كنفها؛ وكان ذلك من النص المطعون فيه إخلالا بحق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور، فإن هذا النص يكون متضمنا - وفي هذه الحدود - مصادرة لهذا الحق، ونكولا عن مبدأ الخضوع للقانون.

وحيث إنه لما تقدم يكون النص المطعون فيه مخالفا لأحكام المواد 9 و10 و11 و12 و40 و41 و65 و68 من الدستور.

وحيث إن المادة 125 من الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس تقضي بأن يبقى الولد تحت سلطة والديه إلى أن يبلغ سن الرشد، وألا يغادر منزل والديه إلا بسبب التجنيد؛ وكان حكمها هذا ملتئما مع الأحكام التي تضمنها النص المطعون فيه في شأن الولاية على نفس الصغير؛ فإن إبطال هذا النص، مؤداه سقوط المادة 125 المشار إليها في مجال تطبيقها بالنسبة إلى هذه الولاية ذاتها في شأن الصغير المشمول بها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة :

أولا: بعدم دستورية المادة 169 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس التي أقرها المجلس الملي العام بجلسته في 9 مايو 1938، والمعمول بها اعتبارا من 8 يوليو 1938، وذلك فيما تضمنته من بقاء الصغير المشمول بالولاية على النفس تحت يد الولي عليه بعد بلوغ الخامسة عشرة من عمره أو بعد البلوغ الطبيعي؛ أي الواقعتين أقرب زمنا.

ثانيا: بسقوط نص المادة 125 من هذه اللائحة في مجال تطبيقها بالنسبة إلى الولاية على نفس الصغير.

ثالثا: بإلزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

العودة للصفحة الرئيسية