المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 72 لسنة 18 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: الرقابة على دستورية القوانين - جنائي - حقوق - دستور- دعوى دستورية - عقوبة - قانون - قانون جنائي - قرائن قانونية - مسئولية مدنية

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 2 أغسطس سنة 1997 م، الموافق 28 ربيع الأول 1418 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 72 لسنة 18 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ ... بصفته المدير العام لشركة الخطوط الجوية البريطانية

ضد

1- السيد/ رئيس مجلس الوزراء 

2- السيد/ وزير المالية بصفته الرئيس الأعلى لمصلحة الجمارك

3- السيد/ رئيس مجلس إدارة مؤسسة مصر للطيران

4- السيد/ مدير شركة الخطوط السويسرية 

5- السيد/ رئيس مجلس إدارة البنك المصري الأمريكي

الإجراءات

في التاسع والعشرين من يونيه سنة 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية المواد 37 و38 و117 و119 من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963، وكذلك قرار رئيس الجمهورية رقم 202 لسنة 1980 بإصدار التعريفة الجمركية.

أودعت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى فيما يتعلق بقانون الجمارك وبعدم قبولها أو برفضها بالنسبة إلى قرار رئيس الجمهورية بإصدار التعريفة الجمركية.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعية - شركة الخطوط الجوية البريطانية - كانت قد أقامت الدعوى رقم 3305 لسنة 1984 مدني كلي جنوب القاهرة أمام محكمة جنوب القاهرة، بطلب الحكم بعدم الاعتداد بالتنبيه بالحجز والإنذار الصادر إليها بدفع مبلغ 290.137.67,11 جنيها تدعي مصلحة الجمارك أنه يمثل الضرائب الجمركية والغرامات التي تستحقها عن العجز في البضائع التي حملتها طائراتها خلال السنوات من 1980 حتى 1985، مع براءة ذمتها من هذا المبلغ.

وقد أدخلت المدعية كلا من مصر للطيران وشركة طيران سويسرا في دعواها، وذلك للحكم عليهما بما عسى أن يحكم به عليها، تأسيسا على أنهما باشرتا أعمال الشحن والتفريغ داخل الدائرة الجمركية وبجلسة 26/3/1987 أحيلت دعواها إلى محكمة تنفيذ عابدين، حيث قيدت برقم 222 لسنة 1987. وقد قضي فيها من هذه المحكمة: أولا: في الدعوى الأصلية - ببراءة ذمة شركة الخطوط الجوية البريطانية فيما جاوز مبلغ 140.755.7,5 جنيها، واعتبار الحجز الإداري الموقع عليها بتاريخ 1/2/1986 كأن لم يكن. ثانيا: في دعوى الضمان الفرعية - بعدم قبولها بالنسبة إلى شركة الخطوط الجوية السويسرية لوجود اتفاق تحكيم، وبرفضها بالنسبة إلى مصر للطيران.

وإذ قدرت المدعية أن الحكم الصادر من محكمة تنفيذ عابدين قد أخطا حكم القانون فيما قرره من مسئوليتها عن المبلغ المحكوم به عليها، فقد خاصمته استئنافيا أمام محكمة استئناف القاهرة، وقيد استئنافها تحت رقم 21007 لسنة 111 قضائية، ثم دفعت - أثناء نظره - بعدم دستورية أحكام المواد 37 و38 و117 و119 من القانون الجمركي الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وحددت ثلاثة أشهر تقيم المدعية خلالها دعواها الدستورية، فقد رفعتها إلى هذه المحكمة للفصل في المسائل الدستورية المثارة فيها.

وحيث إن ولاية هذه المحكمة في الدعاوى الدستورية - وعلى ما جرى به قضاؤها - لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالا مطابقا للأوضاع المقررة في قانونها، وكان نطاق الدعوى الدستورية التي أتاح المشرع للخصوم إقامتها، إنما يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذي أثير أمام محكمة الموضوع، وفي الحدود التي تقدر فيها جديته وكان المدعي في الدعوى الماثلة قد دفع أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية المواد 37 و38 و117 و119 من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963، وانحصر في هذا النطاق وحده، التصريح الصادر للمدعية عن محكمة الموضوع برفع الدعوى الدستورية، فإن الطعن على قرار رئيس الجمهورية رقم 202 لسنة 1980 بإصدار التعريفة الجمركية، يكون مجاوزا نطاق المسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة للفصل فيها.

وحيث إن المواد المطعون عليها تقضي بما يأتي: 

مادة 37:

يكون ربابنة السفن أو من يمثلونهم مسئولين عن النقص في عدد الطرود أو محتوياتها أو في مقدار البضائع المنفرطة (الصب) إلى حين استلام البضاعة في المخازن الجمركية أو في المستودعات أو بمعرفة أصحاب الشأن وترفع هذه المسئولية عن النقص في محتويات الطرود إذا كانت قد سلمت بحالة ظاهرية سليمة يرجح معها حدوث النقص قبل الشحن ولا تكون الجهة القائمة على إدارة المخازن أو المستودعات مسئولة عن النقص في هذه الحالة. وتحدد بقرار من المدير العام للجمارك نسبة التسامح في البضائع المنفرطة زيادة أو نقصا وكذلك النقص الجزئي في البضاعة الناشئ عن عوامل طبيعية أو نتيجة لضعف الغلافات وانسياب محتوياتها.

مادة 38:

إذا كان مقدار البضائع أو عدد الطرود المفرغة أقل مما هو مبين في قائمة الشحن، وجب على ربان السفينة أو من يمثله إيضاح أسباب النقص وإذا كانت البضائع أو الطرود الناقصة لم تشحن أصلا، أو لم تفرغ، أو فرغت في جهة أخرى، وجب أن يكون تبرير النقص مؤيدا بمستندات جدية وإذا تعذر تقديم هذه المستندات جاز إعطاء مهلة لا تجاوز ستة أشهر لتقديمها بشرط أخذ ضمان يكفل حقوق الجمارك.

مادة 117:

تفرض على ربابنة السفن أو قادة الطائرات ووسائل النقل الأخرى، غرامة لا تقل عن عشر الضرائب الجمركية المعرضة للضياع ولا تزيد عن مثلها فضلا عن الضرائب المستحقة وذلك في حالة النقص غير المبرر عما أدرج في قائمة الشحن في عدد الطرود أو محتوياتها أو البضائع المنفرطة.

أما في حالة الزيادة غير المبررة فتفرض غرامة لا تقل عن نصف الضرائب الجمركية المقررة على البضائع الزائدة ولا تزيد على مثليها.

وإذا ظهر بين الزيادة طرود تحمل نفس العلامات والأرقام الموضوعة على طرود أخرى مدرجة في قائمة الشحن، فتعتبر الطرود المقرر عليها ضرائب أكبر هي الطرود الزائدة وتطبق هذه الغرامة أيضا على البضائع الزائدة التي تظهر أثر جرد المستودعات العامة أو الخاصة ولا تكون مدرجة في سجلاتها وتحصل من أصحاب هذه المستودعات.

مادة 119:

تفرض الغرامات المنصوص عليها في المواد السابقة من مدير الجمارك المختص ويجب أداؤها خلال خمسة عشر يوما من تاريخ إعلان المخالفين بهذا القرار بخطاب مسجل مصحوب بعلم وصول، ما لم يتظلم ذوو الشأن بكتاب يقدم للمدير العام للجمارك خلال الخمسة عشر يوما المذكورة وللمدير العام في هذه الحالة أن يؤيد الغرامة أو يعدلها أو يلغيها.

وتحصل الغرامات بطريق التضامن من الفاعلين والشركاء وذلك بطريق الحجز الإداري. وتكون البضائع ضامنة لاستيفاء تلك الغرامات.

ويجوز الطعن في قرارات المدير العام للجمارك خلال خمسة عشر يوما من إعلانها بخطاب موصى عليه بعلم وصول، وذلك أمام المحكمة المختصة ويكون حكم المحكمة نهائيا وغير قابل للطعن فيه.

وحيث إن البضائع محل المسئولية المقررة بالنصوص المطعون عليها، كان قد تم نقلها على طائرة، ومن ثم يسري في شأنها حكم المادة 39 من القانون الجمركي التي توجب أن يقدم عن البضائع المنقولة في طائرة، قوائم شحن موقع عليها من قائدها عقب وصول الطائرة أو قبل سفرها وعلى أن تسري على هذه البضائع، الأحكام الأخرى الخاصة بالبضائع المنقولة بالسفن.

وحيث إن المدعي ينعى على النصوص المطعون عليها مخالفتها للدستور من النواحي الآتية:

أولا: أن المشرع أنشأ بمقتضاها قرينة قانونية مفادها أن وجود نقص في مقدار البضائع أو عدد الطرود التي تم تفريغها من السفينة أو في محتوياتها عما هو مدرج في قائمة الشحن، يعني افتراض أن الربان أو قائد الطائرة قد هربها داخل البلد دون أداء مكوسها. ومن ثم يكون الإضرار بمصالح الخزانة العامة مفترضا كذلك، بما ينفي الصفة المدنية عن مسئولية الربان أو قائد الطائرة باعتبار أن الضرر من أركانها، ولا يفترض

ثانيا: أن الغرامة التي قررتها المادة 117 المطعون عليها، واردة بالباب السابع تحت عنوان "المخالفات الجمركية" بما مؤداه اندراجها في إطار العقوبات التي احتواها القانون الجنائي، ولو كان المشرع قد حدد مقدار الغرامة - لا بصورة جامدة - وإنما بنسبتها إلى الضرر الناجم عن الجريمة، أو إلى الفائدة التي حققها الجاني أو حاول تحقيقها. هذا فضلا عن أن الغرامة نقيض التعويض، فلا يشتبهان. ثم أن مبلغها يزيد أحيانا على مقدار الضريبة التي يقال بأن المدعية سعت للتخلص منها، فلا تنحل إلا عقابا جنائيا، يؤيد ذلك أن الضريبة الجمركية لا تعتبر من علائق القانون الخاص التي يؤدي الإخلال بها إلى أداء تعويض، وإنما تبلور هذه الضريبة مصلحة مالية تقوم الإدارة الجمركية على صونها، فلا يعتبر الجزاء على تفويتها مدنيا.

ثالثا: أن اقتضاء الغرامة بطريق التضامن بين الفاعلين وشركائهم عملا بنص المادة 117 المطعون عليها، لا يحيلها إلى تعويض، ذلك أن الألفاظ التي يستخدمها المشرع في سياق معين، لا تكفي وحدها لتحديد الطبيعة القانونية للجزاء، بل يتعين الخوض في الخصائص التي يقوم عليها، والأغراض التي يتوخاها. فكلما كان الجزاء إيلاما مقصودا، متوخيا إنهاء كل تحايل على أداء الضريبة الجمركية وسد منافذ التهرب منها، كان معنى العقوبة ظاهرا فيه، ولو داخلتها بعض مظاهر التعويض.

وما قصد المشرع بتقرير التضامن في أداء الغرامة بين الفاعلين وشركائهم، إلا تيسير تحصيلها، دون أن ينفي عنها خصائص العقوبة التي تلازمها.

رابعا: أن مبدأ شخصية العقوبة يقتضي ألا تنسب الجريمة لغير من ارتكبها، وألا توقع عقوبتها على غير فاعلها يقول تعالى "ولاتزر وازرة وزر أخرى" "وكل نفس بما كسبت رهينة" "إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون"، وافتراض المسئولية الجنائية يناقض افتراض البراءة، ومن ثم كان غير جائز، وكان مفهوما بالتالي أن ندرأ الحدود بالشبهات ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

خامسا: أن البضائع التي حررت المحاضر عنها تتعلق جميعها بعجز فيها، فإذا لم ترد أصلا إلى جمهورية مصر العربية، فإن قرينة تهريبها تكون منفصلة عن واقعها ومن غير المتصور في جريمة التهريب الجمركي - وهي من الجرائم العمدية - أن تقوم أركانها بناء على مجرد الخطأ، بل يتعين أن يكون قائد الطائرة - أو من يمثله - محيطا بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينيا، لا ظنيا أو افتراضيا.

وحيث إن الفصل في دستورية النصوص المطعون عليها، يقتضي ابتداء تحديد طبيعة المسئولية التي تثيرها. فالذين يقولون بأنها مسئولية مدنية، يستندون في ذلك إلى أنها الأصل في المسئولية، وأن الخروج على هذا الأصل لا يكون إلا بنصوص واضحة الدلالة على وجهتها، فلا يجوز تقرير الصفة الجنائية لنصوص قانونية إذا شابها غموض حول طبيعتها والذين يقولون بأن الغرامة التي تتضمنها النصوص المطعون عليها، تنحل - في حقيقتها - إلى عقوبة جنائية، ولا شأن لها بمفهوم التعويض، يذهبون إلى أن مقدارها محدد تحديدا تحكميا وآمرا، ولا شأن لتوقيعها بوقوع ضرر، ولا تمتد من الفاعلين وشركائهم - الذين يسألون عنها بالتضامن - إلى ورثتهم، ولا إلى المسئولين عن الحقوق المدنية وليس الحكم بها معلقا على طلبها ممن أضير مباشرة من الأفعال التي تستنهضها، بل فرضها المشرع بوصفها جزاء جنائيا ملازما لجريمة التهريب الجمركي التي تقوم النصوص المطعون عليها على مظنة ارتكابها ولو كانت الغرامة التي تضمنتها النصوص المطعون عليها تعويضا مدنيا، لكان مقدارها محددا بقدر الضرر دون زيادة أو نقصان.

وحيث إن اتجاها ثالثا قد نحا إلى القول، بأن الغرامة المقررة بالنصوص المطعون عليها حقيقتها تعويض وإن تضمن إيلاما، فلا ينسلخ معنى العقوبة عنها، ولا يزايلها كذلك مفهوم التعويض، إذ هما أمران يغشيانها ويؤثران في تحديد طبيعتها. فلا هي بتعويض محض، ولا بجزاء جنائي خالص، بل تختلط طبيعتها تبعا لتزواج هذين العنصرين فيها.

وحيث إن القول بأن الغرامة التي تضمنتها النصوص المطعون عليها، لا تعتبر محض تعويض، ولا جزاء جنائيا صرفا، وإنما يختلط هذان المعنيان فيها، ويعتبران من ملامحها، فلا ينفصلان عنها، مردود، بأن لكل من المسئولية المدنية والجنائية مفهومها وأركانها، فلا يتماثلان، ولا يتصور أن تفصل هذه المحكمة في دستورية النصوص المطعون عليها على ضوء اجتماع مسئوليتين متنافرتين فيها بالنظر إلى تباين أحكامهما وتعارضها. وليس لهذه المحكمة كذلك أن تختار من هاتين المسئوليتين عناصر تصطفيها بنفسها، استبدادا منها برأيها، لترجحها على ما عداها، وأن تتخذها بالتالي - ودون سند من الدستور أو القانون - معيارا للشرعية الدستورية. ولا يجوز من ثم، النظر إلى الغرامة التي فرضتها النصوص المطعون عليها باعتبارها واقعة بين منطقتين متداخلتين، بل الصحيح أن لكل من المسئولية الجنائية والمدنية، دائرتها ومجال عملها، فلا يتماسان أو يتلاقيان. وامتناع تشابههما مؤداه أن الغرامة التي تضمنتها هذه النصوص يتعين تكييفها إما بوصفها تعويضا مدنيا، أو باعتبارها جزاء جنائيا. وغير ذلك يعجز هذه المحكمة عن مباشرتها لرقابتها في شأن دستورية الغرامة المطعون عليها.

وحيث إنه في مجال الفصل فيما إذا كانت الغرامة الجمركية تعويضا مدنيا، أم محض عقوبة جنائية، فإن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن النصوص العقابية لا تفقد طبيعتها لمجرد غموضها أو تميعها. ولا تزايلها - لهذا الاعتبار وحده - خصائصها كنصوص قانونية أوردها المشرع في مجال التجريم، إذ لا يعدو انبهامها أو تسيبها، أن يكون عوارا أصابها مؤديا إلى إبطالها لانتفاء وضوحها ويقينها. وهما معنيان يلازمانها ضمانا لأن يكون المخاطبون بها واعين بحقيقتها، فلا يكون بيان الأفعال التي أثمها المشرع خافيا عليهم.

كذلك فإن مراعاة قاعدة التفسير الضيق في شأن النصوص المطعون عليها، يفترض أن يكون الجزاء على مخالفتها جنائيا، ولا يفيد بالضرورة أن يكون هذا الجزاء مدنيا مرددا للقواعد التي تحكم المسئولية المدنية ومبصرا بها، ذلك أن المشرع لا يصوغ القواعد القانونية ليؤكد بها معان تتضمنها نصوص قائمة، ولكن ليقرر بموجبها أحكاما جديدة - إحداثا أو تعديلا - لمصلحة يقدرها.

وحيث إن التمييز بين كل من المسئولية الجنائية والمدنية، يقتضيه أن أولاهما لا تحركها إلا مصلحة الجماعة بافتراض أن ضررا قد أصابها من خلال إتيان الأفعال التي أثمها المشرع لضرورة اجتماعية قدرها، متدرجا بعقابها تبعا لخطورتها، وناهيا أصلا عن التنازل عن الدعوى الجنائية موضوعها أو التصالح عليها، فلا يكون الجزاء عليها محض تعويض، بل إيلاما مقصودا لردع جناتها، ضمانا لأن يكون الوقوع فيها من جديد أقل احتمالا.

ولا كذلك المسئولية المدنية التي لا يقوم الخطأ فيها على إرادة إتيان الفعل والبصر بنتيجته أو توقعها بل مناطها كل عمل غير مشروع يلحق بأحد من الأغيار ضررا، سواء أكان هذا العمل عمدا أم إهمالا ومن ثم كان التعويض الكامل جزاءها وهو لا يكون كاملا إلا إذا كان جابرا لعناصر الضرر جميعها ما كان منها ماديا أو معنويا دون زيادة أو نقصان؛ وكان هذا التعويض كذلك من الحقوق الشخصية التي يجوز النزول عنها، وكان اجتماع المسئولية الجنائية والمدنية ممكنا، إذا كان الفعل الواحد مرتبا لهما معا، بأن كان ضارا بالجماعة وبالفرد في آن واحد، وكان تباعدهما كذلك متصورا إلا أن أظهر ما يمايز بينهما، أن افتراض الخطأ وإن جاز في المسئولية المدنية بالقدر وفي الحدود المنطقية التي يبينها المشرع، إلا أن المسئولية الجنائية لا يقيمها إلا دليل يمتد لكل أركانها، ويثبتها.

وحيث إن من المقرر قانونا، أن العبارة التي يفرغ المشرع فيها أحد النصوص القانونية، إنما يتعين فهمها على ضوء المعنى الذي يستخلص منها عادة، وفق موضوعها، وبمراعاة سياقها، وبالنظر إلى الأغراض التي توخاها المشرع من مجموع النصوص التي أتى بها.

وحيث إن المخالفات الجمركية - محددة على ضوء المصلحة في الدعوى الدستورية - قوامها - وعملا بالمادتين 37 و38 من القانون الجمركي بعد ربطهما بالمادتين 117 و119 من هذا القانون - وجود نقص غير مبرر في الطرود التي تم تفريغها من الطائرة عما هو مدون بشأنها في قائمة الشحن، سواء اتصل هذا النقص بعدد الطرود أو بمحتوياتها

وحيث إن الغرامة التي فرضتها المادة 117 من هذا القانون، محددة مقدارها بما لا يقل عن عشر الضرائب الجمركية المعرضة للضياع ولا يزيد على مثلها، مبناها أن الأصل في الطرود أن يكون ما فرغ منها - سواء في أعدادها أو محتوياتها - مطابقا لبياناتها في قائمة الشحن فإذا نقص ما فرغ من هذه الطرود عما هو مدون بشأنها في تلك القائمة، فإن افتراض تهريبها يقوم في حق الربان أو قائد الطائرة إعمالا لتلك القرينة القانونية التي أحدثها المشرع، والتي لا يدفعها أيهما إلا إذا أقام الدليل على عكسها ببراهين يبرر بها هذا النقص.

وحيث إن القول بأن الغرامة التي فرضها المشرع على هذا النحو، تنحل تعويضا مدنيا، لا يستقيم وأحكامها، ولا يلتئم والأغراض التي توخاها المشرع منها، ومردود كذلك، أولا: بأن الجرائم الجمركية جميعها لا تعتبر من نوع واحد، بل فصل المشرع بين المخالفات الجمركية من ناحية وجنح التهريب من ناحية أخرى، مفردا لكل منها بابا مستقلا، منتهجا في ذلك تقسيما ثنائيا للجرائم الجمركية يعتد بقدر العقوبة التي حددها لكل منها، فلا تجمعها وحدة واحدة، بل تتفرق هذه الجرائم فيما بينها بالنظر إلى جسامتها. فما يكون منها أقل وطأة يعتبر مخالفة جمركية، وهو ما يعني أن المشرع أعمل في شأن الجرائم الجمركية مبدأ التدرج، فلا تكون المخالفات الجمركية إلا جرائم بمعنى الكلمة أراد المشرع بتأثيمها، ردع من يرتكبونها حتى لا يتعرض للضياع ما كان يستحق من المكوس على كامل الطرود التي أثبتتها قائمة الشحن، إذا كان ما فرغ منها أقل.

ومردود ثانيا: بأن المشرع عامل النقص في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها عما هو مدرج في قائمة الشحن، بافتراض أن الربان قد هربها، ولا يتصور أن يتعلق هذا الافتراض إلا بجريمة إدخالها إلى البلاد بطريق غير مشروع دون أداء ضرائبها الجمركية. ولا تقوم الجريمة إلا عن أفعال أثمها المشرع، وهو لا يؤثمها إلا من خلال العقوبة التي يفرضها جزاء على إتيانها، مصيبا بعبئها من يكون مسئولا عنها - من الفاعلين والشركاء - مرتبا بها في ذممهم أعباء مالية قدر أن ثقلها يعتبر كافيا لردعهم أو لحملهم على تجنبها، وتلك أغراض تستهدفها القوانين الجنائية في عموم تطبيقاتها.

ومردود ثالثا: بأن القانون الجمركي ربط المخالفة الجمركية التي يمثلها النقص غير المبرر في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها، بالفائدة التي تصور أنها تعود على جناتها من وراء ارتكابها، فرد عليهم ما قصدوه منها من خلال الغرامة التي فرضها، والتي نسبها إلى المكوس الجمركية ذاتها بافتراض تعريضها للضياع من قبلهم، فلا يكون مبلغها ثابتا، ومن ثم تتوافر لهذه الغرامة - وتلك طبيعتها - خصائص الغرامة النسبية التي يتضامن المسئولون عن الجريمة التي تستوجبها في دفعها - فاعلين كانوا أو شركاء - فلا يحكم عليهم - مع تعددهم - إلا بغرامة واحدة يقيسها المشرع وفقا للضوابط التي قدرها لتناسبها مع الفائدة التي حققها الجناة من جريمتهم، أو التي قصدوا إلى بلوغها بارتكابها، فلا تحصل الإدارة الجمركية إلا على مبلغها لا أكثر ولا أقل، توكيدا لعينيتها التي لا ينافيها تقرير حد أدنى لها.

ومردود رابعا: بأن لكل جريمة عقوبتها التي لا تنفصل عن الأفعال التي تكونها، بل تمثل منها جزءا لا يتجزأ. والغرامة التي فرضتها المادة 117 من القانون الجمركي مناطها تلك المخالفة الجمركية التي افترض المشرع أن الربان أو قائد الطائرة قد ارتكبها، محددا بذلك عقوبتها التي لا يجوز توقيعها إلا بتوافر أركان الجريمة التي تتصل بها، وإثباتها بكل عناصرها، فلا يحكم بها على من يكون غير مسئول جنائيا عنها، ولو كان مسئولا مدنيا عن ضررها فإذا تعدد المسئولون عن المخالفة الجمركية - الذين وصفهم المشرع بالفاعلين والشركاء - كان تضامنهم في الوفاء بعقوبتها، لازما.

ومردود خامسا: بأن القانون الجمركي وإن خول الإدارة الجمركية ذاتها توقيع الغرامة التي حددتها النصوص المطعون عليها، إلا أن طبيعتها لا تتحدد إلا على ضوء خصائصها، وليس بالنظر إلى الجهة التي اختصها المشرع بفرضها وإذا كان القانون الجمركي قد خول هذه الجهة الإدارية - التي عينها بالفقرة الأولى من المادة 119 - أن تفرض الغرامة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة 117 بمناسبة النقص غير المبرر في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها عما هو مدرج في قائمة الشحن، فذلك استصحابا للسياسة التشريعية التي التزمها عند العمل باللائحة الجمركية القديمة التي صدر بها أمر عال في 2 من أبريل 1884، والتي لا يجوز التذرع بها لتحوير طبيعة الغرامة النسبية محل النزاع، من خلال نفي الصفة الجنائية عنها.

ومردود سادسا: بأن المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون الجمركي، صريحة في نصها على أن النقص، أو الزيادة غير المبررة سببان لإيقاع الغرامة التي نسبها المشرع إلى المكوس الجمركية المعرضة للضياع بدلا من تحديدها بمبلغ معين، وأنه تمشيا مع "مبدأ التدرج في العقوبة" رؤي أن تزيد نسبتها في حالة الزيادة غير المبررة عن حالة النقص غير المبرر.

وحيث إن لكل جريمة ينشئها المشرع أركانها التي يجب أن تثبتها سلطة الاتهام من خلال تقديمها لأدلتها والإقناع بها بما يزيل كل شك معقول حولها، ذلك أنها تعمد من خلال اتهامها لشخص بجريمة تدعيها، إلى خلق واقع جديد يناقض افتراض البراءة باعتباره تعبيرا عن الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وصار متصلا بها منذ ميلاده، فلا تنقضها إرادة أيا كان وزنها. وإنما ينحيها حكم قضائي تعلق بجريمة بذاتها، وغدا باتا في شأن نسبتها إلى فاعلها.

وحيث إن من المقرر كذلك أن القرائن القانونية - حتى ما كان منها قاطعا - هي التي يقيمها المشرع مقدما ويعممها بعد أن يصوغها على ضوء ما يكون راجح الوقوع عملا، وكان المشرع بتقريره لها، إنما يتوخى إعفاء الخصم من التدليل على واقعة بذاتها بعد أن أحل غيرها محلها، وأقامها بديلا عنها، ليتحول الدليل إليها، فإذا أثبتها الخصم، اعتبر ذلك إثباتا للواقعة الأصلية بحكم القانون فلا تكون القرائن القانونية بذلك إلا إثباتا غير مباشر، مرتبطا أصلا بالمسائل المدنية، فإن تعدتها إلى غيرها، صار أمر دستوريتها محددا على ضوء مساسها بالحرية الشخصية، وإخلالها بمقوماتها.

وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، أو تفويض السلطة التنفيذية في إصدارها في الحدود التي بينها الدستور، لا يخول أيتهما العدوان على اختصاص عهد به الدستور إلى السلطة القضائية وقصره عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على ولايتها، وتقويضا لاستقلالها ولا يجوز بالتالي أن يمتد اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، إلى إحداثها لقرائن قانونية تنفصل عن واقعها ولا تربطها بالتالي ثمة علاقة منطقية بالنتائج التي رتبتها عليها، لتحول بها بين السلطة القضائية ومباشرة مهامها في نطاق الدعوى الجنائية التي اختصها بالفصل فيها.

وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية لا من معطياتها النظرية، وكان ذلك مؤداه أن الأغراض النهائية للقوانين الجنائية ينافيها على الأخص أن يدان المتهمون لغير جريرة، أو عن طريق الإخلال بالموازين الدقيقة التي يتكافأ بها مركز سلطة الاتهام مع حقوق متهميها.

وحيث إنه متى كان ذلك، وكانت جريمة التهريب الجمركي من الجرائم العمدية التي لا يجوز افتراضها، ولا تتوافر أركانها إلا بإرادة ارتكابها، ولا تعتبر الشبهة التي تحيطها ويظن معها الوقوع فيها، سلوكا محددا أتاه جان، بل توهما لا يقوم به دليل، ولا تنهض به المسئولية الجنائية، وكان المشرع قد أقام من مجرد وجود نقص في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها، قرينة على تهريبها لا يدفعها المتهمون عنهم إلا بتقديمهم ما ينقضها، فلا يكون إخفاقهم في نفيها، إلا تقريرا لمسئوليتهم الجنائية بما يناقض افتراض براءتهم، ويحول دون انتفاعهم بضمانة الدفاع التي تفترض لممارستها قيام اتهام محدد ضدهم، معزز بالبراهين الجائز قبولها قانونا، وإخلالا بالضوابط التي فرضها الدستور في مجال محاكمتهم إنصافا، وتعديا كذلك على الحدود التي فصل بها بين ولاية كل من السلطتين التشريعية والقضائية، بما يصم النصوص المطعون عليها - في مجال تطبيقها في شأن النقص غير المبرر في عدد الطرود أو محتوياتها - بمخالفتها لأحكام المواد 41 و66 و67 و69 و165 من الدستور.

وحيث إن توافر الصفة الجنائية في المخالفات الجمركية التي تضمنتها النصوص المطعون عليها مؤداه أن نظرها، وإيقاع عقوبتها، لا يكون إلا عملا قضائيا على ضوء المادتين 66 و67 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:

أولا: بعدم دستورية ما تضمنته المواد 37 و38 و117 من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963، من اعتبار مجرد النقص في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها عما أدرج في قائمة الشحن، قرينة على تهريبها، مستوجبا فرض الغرامة المنصوص عليها في المادة 117 من هذا القانون، ما لم يبرر الربان أو قائد الطائرة هذا النقص.

ثانيا: بعدم دستورية ما تضمنته المادة 119 من ذلك القانون، من تخويل مدير الجمارك الاختصاص بفرض الغرامة المشار إليها.

ثالثا: بسقوط الأحكام الأخرى التي تضمنتها النصوص المطعون عليها، والتي ترتبط بأجزائها المحكوم بعدم دستوريتها، ارتباطا لا يقبل التجزئة.

رابعا: بإلزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية