المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 6 لسنة 15 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

الحرية النقابية والديمقراطية النقابية

حيث إن البين من دستور منظمة العمل الدولية، أن مبدأ الحرية النقابية يعتبر لازما لتحسين أوضاع العمال وضمان الاستقرار والسلام الاجتماعي. كذلك تعامل حرية التعبير والحرية النقابية باعتبارهما مفترضين لازمين لاطراد التقدم. وفي هذا الإطار اعتمد المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الحادية والثلاثين، الاتفاقية رقم 78 في شأن الحرية النقابية، النافذة أحكامها اعتبارا من 4 يوليو سنة 1950، والتي تخول العمال - دون تمييز من أي نوع - الحق في تكوين منظماتهم التي يختارونها بغير إذن سابق، ودون تقيد بغير القواعد المنصوص عليها في دساتيرها وأنظمتها. وهي قواعد تصوغها بإرادتها الحرة وتنظم بها - عليه الأخص - طرق إدارتها وبرامجها ومناحي نشاطها، وبما يحول بين السلطة العامة والتدخل في شئونها، أو الحد من ممارستها لتلك الحقوق أو تعطيلها (المواد 1، 2، 3 منها)، بل أن مادتها الرابعة تنص على أن منظماتهم تلك، لا يجوز حلها أو تعليق نشاطها عن طريق الجهة الإدارية.

وحيث إن المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية، أقر كذلك في دورته الثانية والثلاثين، الاتفاقية رقم 89 في شأن التنظيم النقابي، النافذة أحكامها اعتباراً من 8 يوليو سنة 1951، والتي كفل بمادتها الأولي لكل عامل الحماية الكافية من أية أعمال يقصد بها التمييز بين العمال في مجال استخدامهم، إخلالا بحريتهم النقابية. ويكون ضمان هذه الحماية لازما بوجه خاص إزاء الأعمال التي يقصد بها تعليق استخدام العامل على شرط عدم الانضمام إلي منظمة نقابية، أو حمله على التخلي عن عضويته فيها، أو معاملته إجحافاً لانضمامه إليها أو لإسهامه في نشاطها بعد انتهاء عمله.

وحيث إن دستور جمهورية مصر العربية كفل بنص المادة 65 منه جوهر الأحكام التي انتظمتها هاتان الاتفاقيتان الدوليتان، والتي تعتبر مصر طرفا فيهما بتصديقها عليهما، ذلك أن المادة 65 من الدستور تنص عليه ما يأتي [إنشاء النقابات والاتحادات عليه أساس ديمقراطي حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية. وينظم القانون مساهمتها في تنفيذ الخطط والبرامج الاجتماعية، وفي رفع مستوي الكفاية، ودعم السلوك الاشتراكي بين أعضائها، وحماية أموالها. وهي ملزمة بمساءلة أعضائها عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم... وبالدفاع عن الحقوق والحريات المقررة قانونا لأعضائها].

وحيث إن حرية العمال في تكوين تنظيمهم النقابي، وكذلك حرية النقابة ذاتها في إدارة شئونها، بما في ذلك إقرار القواعد التي تنظم من خلالها اجتماعاتها، وطرائق عملها وتشكيل أجهزتها الداخلية، وأحوال اندماجها في غيرها، ومساءلتها لأعضائها عما يقع منهم بالمخالفة لنظمها، لا ينفصلان عن انتهاجها الديموقراطية أسلوبا وحيداً يهيمن عليه نشاطها ويكفل الموازنة بين حقوقها وواجباتها. وكذلك بناء تشكيلاتها وفق الإرادة الحرة للعمال المنضمين إليها - المؤهلين منهم وغير المؤهلين - ودون قيد يتعلق بعدد الأولين منسوباً إلي عدد العمال غير المهنيين. ذلك أن مبدأ الحرية النقابية يعني حق العمال - وأيا كان قطاع عملهم ودون ما تمييز فيما بينهم - في تكوين منظماتهم النقابية بغض النظر عن معتقداتهم أو آرائهم السياسية أو توجهاتهم أو انتماءاتهم، ودون إخلال بحق النقابة ذاتها في أن تقرر بنفسها أهدافها ووسائل تحقيقها وطرق تمويلها، وإعداد القواعد التي تنظم بها شئونها.

ولا يجوز - بوجه خاص - إرهاقها بقيود تعطل مباشرتها لتلك الحقوق، أو تعلق تمتعها بالشخصية الاعتبارية عليه قبولها الحد منها، ولا أن يكون تأسيسها رهناً بإذن من الجهة الإدارية، ولا أن تتدخل هذه الجهة في عملها بما يعوق إدارتها لشئونها، ولا أن تقرر حلها أو وقف نشاطها عقابا لها، ولا أن تحل نفسها محل المنظمة النقابية في ما تراه أكفل لتأمين مصالح أعضائها والنضال من أجلها.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن تكوين التنظيم النقابي لابد أن يكون تصرفاً إرادياً حراً، لا تتداخل فيه السلطة العامة، بل يستقل عنها ليظل بعيداً عن سيطرتها. ومن ثم تتمحض الحرية النقابية عن قاعدة أولية في التنظيم النقابي، تمنحها بعض الدول قيمة دستورية في ذاتها، لتكفل بمقتضاها حق كل عامل في الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها، وفي انتقاء واحدة أو أكثر من بينها - عند تعددها - ليكون عضواً فيها، وفي أن ينعزل عنها جميعاً فلا يلج أبوابها. وكذلك في أن يعْدِل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها.

وهذه الحقوق التي تتفرع عن الحرية النقابية، تعد من ركائزها، ويتعين ضمانها لمواجهة كل إخلال بها، وبوجه خاص لرد خطرين عنها لا يتعادلان في آثارهما، ويتأتيان من مصدرين مختلفين. ذلك أن المنظمة النقابية ذاتها قد تباشر ضغوطها في مواجهة العمال غير المنضمين إليها لجذبهم لدائرة نشاطها توصلاً لإحكام قبضتها عليه تجمعاتهم، وقد يتدخل رجال الصناعة والتجارة في أوضاع الاستخدام في منشآتهم، أو بالتهديد بفصل عمالهم، أو بمساءلتهم تأديبيا، أو بإرجاء ترقياتهم، لضمان انصرافهم عن التنظيم النقابي، أو لحملهم عليه التخلي عن عضويتهم فيه.

وحيث إن الحرية النقابية - محددا إطارها عليه النحو المتقدم – لا تعارض ديموقراطية العمل النقابية، بل هي المدخل إليه، ذلك أن الديموقراطية النقابية هي التي تطرح - بوسائلها وتوجهاتها - نطاقا للحماية يكفل للقوة العاملة مصالحها الرئيسية، ويبلور إرادتها وينفض عن تجمعاتها عوامل الجمود. وهي كذلك مفترض أولي لوجود حركة نقابية تستقل بذاتيتها ومناحي نشاطها. ولازمها أمران: أولهما أن يكون الفوز داخل النقابة بمناصبها المختلفة - عليه تباين مستوياتها وأيا كان موقعها - مرتبطا بالإرادة الحرة لأعضائها، وبشرط أن يكون لكل عضو انضم إليها - الفرص ذاتها - التي يؤثر بها - متكافئا في ذلك مع غيره - في تشكيل سياستها العامة وبناء مختلف تنظيماتها وفاء بأهدافها وضماناً لنهوضها بالشئون التي تقوم عليها. ثانيهما: أن الحرية النقابية لا تعتبر مطلباً لفئة بذاتها داخل النقابة الواحدة، ولا هي من امتيازاتها. بل يتعين أن يكون العمل النقابي إسهاما جماعيا لا يتمحض عن انتقاء حلول بذواتها تستقل الأقلية بتقديرها وتفرضها عنوة. ذلك أن تعدد الآراء داخل النقابة الواحدة وتفاعلها، إثراء لحرية النقاش فيها، لتعكس قراراتها ما تتصوره القاعدة الأعرض من الناخبين فيها مبلوراً لأفكارهم، ومحددا لمطالبهم، إنفاذا لإرادتهم من خلال أصواتهم التي لا يجوز تقييد فرص الإدلاء بها دون مقتض، ولا فرض الوصاية عليها.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة 65 من قيام النقابات واتحاداتها عليه أساس ديموقراطي، يدل عليه أن حكمها جاء عاما مطلقا، منصرفا إلى كل تنظيم نقابي - مهنيا كان أو عماليا - ممتدا إلى تشكيلاتها جميعا - عليه تباين مستوياتها ودرجاتها - كاشفا عن أن العمل النقابي لا يؤمن مصالح جانبية محدودة أهميتها، بل يوفر للمنضمين إليه، الحقائق الكاملة التي يحددون من خلالها أولوياتهم، ويفاضلون عليه ضوئها بين من يتزاحمون من بينهم عليه الظفر بعضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية التي ينتمون إليها.

 

حرية التعبير

حيث إن ضمان الدستور - بنص المادة 74 منه - لحرية التعبير عن الآراء، والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها. وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة. وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقا.

وحيث إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير، هو أن يكون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير ونقلها إليه، غير مقيد بالحدود الإقليمية عليه اختلافها، ولا منحصر في مصادرة بذواتها تعد من قنواتها، بل قصد أن تترامي آفاتها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها، وأن تنفتح مسالكها، وتفيض منابعها لا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفا بها، مقتحما دروبها، ذلك أن لحرية التعبير أهدافاً لا تريم عنها، ولا يتصور أن تسعى لسواها، هي أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جليا، فلا يداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها. ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفاً عليه ما يكون منها زائفا أو صائباً، منطوياً عليه مخاطر واضحة، أو محققا لمصلحة مبتغاة. ذلك أن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير، أن تكون مدخلاً إلى توافق عام، بل تغيا بصونها أن يكون كافلا لتعدد الآراء وإرسائها عليه قاعدة من حيدة المعلومات ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل، ومحدداً لكل اتجاه.

وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 74 من الدستور، أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقا عليه صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها عليه مظاهر الحياة في أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها عليه العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقاً دون تدفقها.

وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها، لا يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها. بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها - وعلانية - تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة - إحداثا من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد يكون مطلوبا. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا في غيبة حرية التعبير. كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 74 من الدستور، لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، بل كذلك اختيار الرسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها، ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها. ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير، أن يكون الإيمان بها شكليا أو سلبيا. بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها، وألا يفرض أحد عليه غيره صمتا ولو بقوة القانون.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين القول بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور، هي القاعدة في كل تنظيم ديموقراطي، لا يقوم إلا بها. ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وإن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأعراض المقصودة من إرسائها.

 

الحق في التجمع

حيث إن الحق في التجمع، بما يقوم عليه من انضمام عدد من الأشخاص إلى بعضهم لتبادل وجهات النظر في شأن المسائل التي تعنيهم. من الحقوق التي كفلتها المادتان 45، 55 من الدستور، وذلك سواء نظرنا إليه باعتباره حقاً مستقلاً عن غيره من الحقوق، أم عليه تقدير أن حرية التعبير تشتمل عليه باعتباره كافلا لأهم قنواتها، محققا من خلالها أهدافها.

وحيث إن هذا الحق - وسواء كان حقاً أصيلا أم تابعا - أكثر ما يكون اتصالا بحرية عرض الآراء وتداولها كلما أقام أشخاص يؤيدون موقفا أو اتجاها معينا، تجمعا منظما يحتويهم، يوظفون فيه خبراتهم، ويطرحون آمالهم، ويعرضون فيه كذلك لمصاعبهم، ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم، ليكون هذا التجمع نافذة يطلون منها عليه ما يعتمل في نفوسهم، وصورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعي وكان تكوين بنيان كل تجمع وسواء كان الغرض منه سياسيا أو نقابيا أو مهنياً لا يعدو أن يكون عملا اختياريا لا يساق الداخلون فيه سوقاً، ولا يمنعون من الخروج منه قهراً. وهو في محتواه لا يتمحض عن مجرد الاجتماع بين أشخاص متباعدين ينعزلون عن بعضهم البعض. بل يرمي بالوسائل السلمية إلى أن يكون إطارا يضمهم، ويعبرون فيه عن مواقفهم وتوجهاتهم. ومن ثم كان هذا الحق متداخلا مع حرية التعبير، ومكونا لأحد عناصر الحرية الشخصية التي لا يجوز تقييدها بغير إتباع الوسائل الموضوعية والإجرائية التي يتطلبها الدستور أو يكفلها القانون، واقعا عند البعض في نطاق الحدود التي يفرضها صون خواص حياتهم وأعماق حرمتها بما يحول دون اقتحام أغوارها أو تعقبها لغير مصلحة جوهرية لها معينها، لازما اقتضاءً ولو لم يرد بشأنه نص في الدستور، كافلا للحقوق التي أحصاها ضماناتها، محققا فعالياتها، سابقا عليه وجود الدساتير ذاتها، مرتبطا بالمدنية في مختلف مراحل تطورها، كامنا في النفس البشرية، تدعو إليه فطرتها. وهو فوق هذا من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها.

بل إن حرية التعبير ذاتها تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم. وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض، بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها البعض، ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكال الاجتماع.

ذلك إن الانعزال عن الآخرين يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها، ولو كان أفقها ضيقا أو كان عقمها أو تحزبها باديا.

كذلك فإن هدم حرية الاجتماع، إنما يقوض الأسس التي لا يقوم بدونها نظام الحكم يكون مستنداً إلى الإرادة الشعبية. ولا تكون الديموقراطية فيه بديلاً مؤقتاً، أو إجماعا زائفا، أو تصالحا مرحليا لتهدئة الخواطر. بل شكلاً مثالياً لتنظيم العمل الحكومي وإرساء قواعده. ولازم ذلك امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون، وفي الحدود التي تتسامح فيها النظم الديموقراطية، وترتضيها القيم التي تدعو إليها.

 

حق الترشيح وحق الانتخاب

حيث إن من المقرر كذلك أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور أو المشرع صفتها التمثيلية، لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم. ذلك أن هذين الحقين مرتبطان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما. ولا يجوز بالتالي أن تفرض عليه مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها أو بما يكون كافلاً إنصافها، وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها، بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها، بما يصون حيدتها، ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين فيها. ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من عمال المنظمة النقابية - ودون أسس موضوعية - من فرص الفوز بعضوية مجلس إدارتها. ذلك أن آثرها هو إبعاد هؤلاء عن العملية الانتخابية بأكملها، وحجبهم بالتالي عن الإسهام فيها. بما مؤداه احتكار غرمائهم لها وسيطرتهم عليها دون منازع، وإنهاء حق المبعدين في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجهاتهم، وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين، وبوجه خاص، كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم.

بل إن القيم العليا لحرية التعبير - بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها - ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلا ومفتوحا، بل مقصوراً عليه فئة بذاتها من أعضاء المنظمة النقابية، أو منحصراً في مسائل بذواتها لا يتعداها.

كذلك فإن حق الناخبين في الاجتماع مؤداه، ألا تكون الحملة الانتخابية - التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم وإطارا يحددون من خلاله أولوياتهم - محدودة آفاقها، بما تفضي إليه من تضاؤل فرصهم التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين، وانتقاء من يكون من بينهم شريكا معهم في أهدافهم قادرا عليه النضال من أجل تحقيقها.

 

مبدأ المساواة وصور التمييز المحظورة

حيث إن الدساتير المصرية جميعاً بدءاً بدستور سنة 1923 وانتهاء بالدستور القائم، رددت جميعها مبدأ المساواة القانونية كافلة تطبيقه عليه جميع المواطنين باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، وباعتباره الضمانة الرئيسية لصون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ في جوهره وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها عليه الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين في حدود سلطته التقديرية، وعليه ضوء ما يرتئيه محققاً للمصلحة العامة.

ولئن نص الدستور في المادة 40 منه، على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بعينها، هي تلك التي يقوم التمييز فيها عليه أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها، مرده أنها الأكثر شيوعا في الحياة العملية، ولا يدل البتة عليه انحصاره فيها. إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً، وهو ما يناقض المساواة التي كفلها الدستور، ويحول دون إرساء أسسها، وبلوغ غايتها.

وآية ذلك إن من صور التمييز التي أغفلتها المادة 40 من الدستور ما لا يقل عن غيرها خطراً سواء من ناحية محتواها أو من جهة الآثار التي ترتبها، كالتمييز بين المواطنين في نطاق الحقوق التي يتمتعون بها، أو الحريات التي يمارسونها، لاعتبار مرده إلى مولدهم، أو مركزهم الاجتماعي، أو انتمائهم الطبقي، أو ميولهم الحزبية، أو نزاعاتهم العرقية، أو عصبيتهم القبلية، أو إلى موقفهم من السلطة العامة، أو إعراضهم عن تنظيماتها، أو تبنيهم لأعمال بذاتها، وغير ذلك من أشكال التمييز التي لا تظاهرها أسس موضوعية تقيمها، وكان من المقرر أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها عليه قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها، وبوجه خاص عليه صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك من مظاهر الحياة العامة.

 

 

الدعوى رقم 6 لسنة 15 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

 بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 15 أبريل 1995م الموافق 15 ذو القعدة 1415هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وعدلي محمود منصور.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي:

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 6 لسنة 15 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيدة/ ...

ضد

السيد/ رئيس مجلس الوزراء

السيدة/ ...

الإجراءات

بتاريخ 21 فبراير سنة 1993 أودعت المدعية قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالبة الحكم بعدم دستورية المادة 38 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وبجلسة 5 نوفمبر سنة 1994 قررت المحكمة إعادتها إلى هيئة المفوضين لاستكمال التحضير. وإذ أودعت هيئة المفوضين تقريرها التكميلي، أعادت المحكمة نظرها، وقررت إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - حسبما يبين من صحيفة الدعوي وسائر الأوراق - تتحصل في أنه عند إجراء انتخابات مجلس إدارة اللجنة النقابية للعاملين باللاسلكي، حصلت المدعية على أصوات تفوق ما حصلت عليها المدعى عليها الثانية، التي بادرت إلي إقامة دعواها الموضوعية رقم 767 لسنة 1991 أمام محكمة شئون العمال بالقاهرة، مختصمة فيها وزير القوي العاملة وآخرين، طالبة الحكم بصفة مستعجلة بوقف إعلان نتيجة الانتخابات، والحكم بفوزها بعضوية المجلس المشار إليه بدلاً من المدعية، وذلك على سند من أحكام المادة 38 من قانون النقابات العمالية التي تحظر الجمع بين عضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية والعضوية العاملة في نقابة مهنية بما يزيد عن 20% من مجموع أعضاء هذا المجلس. وإذ دفعت المدعية - بعد تدخلها انضماما إلي المدعى عليهم في النزاع الموضوعي - بعدم دستورية النص المشار إليه، وكانت محكمة الموضوع قد قدرت جدية دفعها، وصرحت لها بإقامة الدعوي الدستورية، فقد أقامت الدعوى الماثلة.

وحيث إن المادة 38 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976 تنص على ما يأتي:

"لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية، والعضوية العاملة في نقابة مهنية بما يزيد على 20% من مجموع عدد أعضاء هذا المجلس، وذلك ما لم تكن أغلبية المنظمة النقابية من المنتمين إلي نقابات مهنية."

"ولا يجوز في جميع الأحوال الجمع بين عضوية مجالس إدارات النقابات المهنية، وعضوية مجالس إدارات المنظمات النقابية الخاضعة لأحكام هذا القانون".

وحيث إن المدعية تنعى على ذلك النص مخالفته أحكام المواد 8، 40، 47، 56، 62 من الدستور، قولاً منها بأنه يخل بتكافؤ الفرص بين المواطنين، وكذلك بمبدأ المساواة أمام القانون. فضلاً عن إهداره لحرية التعبير، وكذلك الحق في الحرية النقابية وتكوين التنظيم النقابي على أساس ديمقراطي، وتقييده لحقي الانتخاب والترشيح.

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوي الدستورية - مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوي الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازماً للفصل في النزاع الموضوعي، وكان ما يتصل من هذا النزاع بالنص المطعون عليه، إنما ينحصر في ما قرره من عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية والعضوية العاملة في نقابة مهنية في ما يزيد عليه 20% من مجموع مقاعد ذلك المجلس، وكان عدم فوز المدعية بمقعد في مجلس إدارة النقابة العمالية إنما يعود إلي مجاوزتها تلك النسبة التي فرضها النص المطعون عليه، مما حملها على التدخل في الدعوي الموضوعية، وإبداء دفعها بعدم الدستورية، فإن نطاق الطعن الماثل ينحصر في هذه الحدود، ولا يمتد لغيرها من أجزاء النص المطعون عليه.

وحيث إن البين من تقرير اللجنة المشتركة من لجنة القوي العاملة وهيئة مكتب اللجنة التشريعية عن مشروع القانون رقم 35 لسنة 1976 بشأن النقابات العمالية، أن الفقرة الأولي من المادة 38 المشار إليها لم تكن واردة أصلاً في المشروع المقدم من الحكومة، وأن خلافاً داخل اللجنة المذكورة قد ثار حول نطاق حق العمال الأعضاء في نقابة مهنية، في أن يكونوا أعضاء بمجلس إدارة المنظمة النقابية العمالية، وأن الآراء التي قيل بها في هذا الشأن ترددت بين تقرير هذا الحق على إطلاقه، وبين القبول ببعض الحلول التي اعتبرها أصحابها حلولاً توفيقية أو واقعية أكثر منها قانونية.

 فالذين قالوا بإطلاق هذا الحق، ذهبوا إل أن كل قيد يحد من حق العمال أعضاء النقابة المهنية في الانضمام إلي النقابة العمالية والتمثيل في تشكيلاتها المختلفة، يعتبر مخالفا للاتفاقيات الدولية، وللدستور، لإخلاله بالحرية النقابية، وانطوائه على التمييز أو التقييد في مجال العضوية النقابية، ولخروجه كذلك عليه مبدأ تشكيل التنظيم النقابي على أساس ديمقراطي، ومنافاته لقوانين النقابات العمالية في الدول العربية والغربية والشرقية.

كذلك فإن الأصل في النقابة المهنية هي أنها تعد من أشخاص القانون العام التي تتوخي تنظيم شئون المهنة وحمايتها من الدخلاء عليها، مع ضمان حقوق أعضائها في ممارستها على مسئوليتهم ولحسابهم الخاص. غير أن تطوراً مفجعا أصابها، وأخرجها عن حقيقة وظائفها، وباعد بينها وبين المهام التي كانت تقوم أصلاً عليها، حين انضم إليها "بقوة القانون" من لا يعملون لحسابهم، ولا يمارسون استقلالاً مهنة حرة عليه مسئوليتهم. بل يتبعون رؤسائهم في الحكومة ووحدات الحكم المحلي والقطاعين العام والخاص، ويؤدون عملهم تحت إشرافهم لقاء أجر، مما ألحق الضرر بالحركة النقابية العمالية، وأضعفها، بخروج هؤلاء من تجمعاتها، وحصولهم من نقاباتهم المهنية عليه عديد من المزايا التي جذبتهم إليها. ولابد أن يتفاقم هذا الضرر، وأن يزداد حدة، إذا ما حال المشرع بين المهنيين والمنظمة النقابة العمالية، سواء بمنعهم من الانضمام إليها أو الدخول في مختلف تشكيلاتها، وكذلك إذا قيد ذلك الحق بما يحد من محتواه.

يؤيد ذلك أن التمييز بين العمال عليه أساس المؤهل، وتقييد حرياتهم بالتالي، مما يعوق التقدم، ولا يستقيم سياسيا أو تشريعيا أو قانونيا. ذلك أن تأهيل العمال غدا ضرورة لازمة إزاء تطور العلوم وتباين مناهجها. ومن غير المتصور أن يحرم غالبية عمال المنشأة من التمثيل في المنظمة النقابية المتعلقة بها، لمجرد حصولهم على مؤهل، أو ممارستهم لمهنة بذاتها يكون المؤهل شرطاً للقيد في جداولها.

وعلى نقيض هؤلاء الذين أجازوا الجمع بين عضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية، والعضوية العاملة في نقابة مهنية على إطلاق، قال آخرون من أعضاء اللجنة المشار إليها الذين أيدوا النص المطعون عليه، بأن تمثيل الأغلبية العددية من العمال بالمعني السياسي للعامل، يتحقق إذا ما كفل المشرع تمثيل المهنيين في مجلس إدارة المنظمة النقابية بما لا يزيد عليه 20% من مجموع أعضاء المجلس باعتبار أن هذه النسبة هي التي تنسجم مع التوزيع العددي لهذين الفريقين في المنشآت العمالية، ولا تشكل بالتالي قيداً على الحرية النقابية. ولا تقيم كذلك تمييزا بين العمال، ولا حجرا على إرادتهم في اختيار من يقدرون جدارته لتمثيلهم. بل أن تقريرها يدعم الحركة العمالية، ذلك أن تجمعاتها لن تكون إلا لهؤلاء الذين يدينون بالولاء لها.

وحيث إن البين من دستور منظمة العمل الدولية، أن مبدأ الحرية النقابية يعتبر لازما لتحسين أوضاع العمال وضمان الاستقرار والسلام الاجتماعي. كذلك تعامل حرية التعبير والحرية النقابية باعتبارهما مفترضين لازمين لاطراد التقدم. وفي هذا الإطار اعتمد المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الحادية والثلاثين، الاتفاقية رقم 78 في شأن الحرية النقابية، النافذة أحكامها اعتبارا من 4 يوليو سنة 1950، والتي تخول العمال - دون تمييز من أي نوع - الحق في تكوين منظماتهم التي يختارونها بغير إذن سابق، ودون تقيد بغير القواعد المنصوص عليها في دساتيرها وأنظمتها. وهي قواعد تصوغها بإرادتها الحرة وتنظم بها - عليه الأخص - طرق إدارتها وبرامجها ومناحي نشاطها، وبما يحول بين السلطة العامة والتدخل في شئونها، أو الحد من ممارستها لتلك الحقوق أو تعطيلها (المواد 1، 2، 3 منها)، بل أن مادتها الرابعة تنص على أن منظماتهم تلك، لا يجوز حلها أو تعليق نشاطها عن طريق الجهة الإدارية.

وحيث إن المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية، أقر كذلك في دورته الثانية والثلاثين، الاتفاقية رقم 89 في شأن التنظيم النقابي، النافذة أحكامها اعتباراً من 8 يوليو سنة 1951، والتي كفل بمادتها الأولي لكل عامل الحماية الكافية من أية أعمال يقصد بها التمييز بين العمال في مجال استخدامهم، إخلالا بحريتهم النقابية. ويكون ضمان هذه الحماية لازما بوجه خاص إزاء الأعمال التي يقصد بها تعليق استخدام العامل على شرط عدم الانضمام إلي منظمة نقابية، أو حمله على التخلي عن عضويته فيها، أو معاملته إجحافاً لانضمامه إليها أو لإسهامه في نشاطها بعد انتهاء عمله.

وحيث إن دستور جمهورية مصر العربية كفل بنص المادة 65 منه جوهر الأحكام التي انتظمتها هاتان الاتفاقيتان الدوليتان، والتي تعتبر مصر طرفا فيهما بتصديقها عليهما، ذلك أن المادة 65 من الدستور تنص عليه ما يأتي [إنشاء النقابات والاتحادات عليه أساس ديمقراطي حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية. وينظم القانون مساهمتها في تنفيذ الخطط والبرامج الاجتماعية، وفي رفع مستوي الكفاية، ودعم السلوك الاشتراكي بين أعضائها، وحماية أموالها. وهي ملزمة بمساءلة أعضائها عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم... وبالدفاع عن الحقوق والحريات المقررة قانونا لأعضائها].

وحيث إن حرية العمال في تكوين تنظيمهم النقابي، وكذلك حرية النقابة ذاتها في إدارة شئونها، بما في ذلك إقرار القواعد التي تنظم من خلالها اجتماعاتها، وطرائق عملها وتشكيل أجهزتها الداخلية، وأحوال اندماجها في غيرها، ومساءلتها لأعضائها عما يقع منهم بالمخالفة لنظمها، لا ينفصلان عن انتهاجها الديموقراطية أسلوبا وحيداً يهيمن عليه نشاطها ويكفل الموازنة بين حقوقها وواجباتها. وكذلك بناء تشكيلاتها وفق الإرادة الحرة للعمال المنضمين إليها - المؤهلين منهم وغير المؤهلين - ودون قيد يتعلق بعدد الأولين منسوباً إلي عدد العمال غير المهنيين. ذلك أن مبدأ الحرية النقابية يعني حق العمال - وأيا كان قطاع عملهم ودون ما تمييز فيما بينهم - في تكوين منظماتهم النقابية بغض النظر عن معتقداتهم أو آرائهم السياسية أو توجهاتهم أو انتماءاتهم، ودون إخلال بحق النقابة ذاتها في أن تقرر بنفسها أهدافها ووسائل تحقيقها وطرق تمويلها، وإعداد القواعد التي تنظم بها شئونها.

ولا يجوز - بوجه خاص - إرهاقها بقيود تعطل مباشرتها لتلك الحقوق، أو تعلق تمتعها بالشخصية الاعتبارية عليه قبولها الحد منها، ولا أن يكون تأسيسها رهناً بإذن من الجهة الإدارية، ولا أن تتدخل هذه الجهة في عملها بما يعوق إدارتها لشئونها، ولا أن تقرر حلها أو وقف نشاطها عقابا لها، ولا أن تحل نفسها محل المنظمة النقابية في ما تراه أكفل لتأمين مصالح أعضائها والنضال من أجلها.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن تكوين التنظيم النقابي لابد أن يكون تصرفاً إرادياً حراً، لا تتداخل فيه السلطة العامة، بل يستقل عنها ليظل بعيداً عن سيطرتها. ومن ثم تتمحض الحرية النقابية عن قاعدة أولية في التنظيم النقابي، تمنحها بعض الدول قيمة دستورية في ذاتها، لتكفل بمقتضاها حق كل عامل في الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها، وفي انتقاء واحدة أو أكثر من بينها - عند تعددها - ليكون عضواً فيها، وفي أن ينعزل عنها جميعاً فلا يلج أبوابها. وكذلك في أن يعْدِل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها.

وهذه الحقوق التي تتفرع عن الحرية النقابية، تعد من ركائزها، ويتعين ضمانها لمواجهة كل إخلال بها، وبوجه خاص لرد خطرين عنها لا يتعادلان في آثارهما، ويتأتيان من مصدرين مختلفين. ذلك أن المنظمة النقابية ذاتها قد تباشر ضغوطها في مواجهة العمال غير المنضمين إليها لجذبهم لدائرة نشاطها توصلاً لإحكام قبضتها عليه تجمعاتهم، وقد يتدخل رجال الصناعة والتجارة في أوضاع الاستخدام في منشآتهم، أو بالتهديد بفصل عمالهم، أو بمساءلتهم تأديبيا، أو بإرجاء ترقياتهم، لضمان انصرافهم عن التنظيم النقابي، أو لحملهم عليه التخلي عن عضويتهم فيه.

وحيث إن الحرية النقابية - محددا إطارها عليه النحو المتقدم – لا تعارض ديموقراطية العمل النقابية، بل هي المدخل إليه، ذلك أن الديموقراطية النقابية هي التي تطرح - بوسائلها وتوجهاتها - نطاقا للحماية يكفل للقوة العاملة مصالحها الرئيسية، ويبلور إرادتها وينفض عن تجمعاتها عوامل الجمود. وهي كذلك مفترض أولي لوجود حركة نقابية تستقل بذاتيتها ومناحي نشاطها. ولازمها أمران: أولهما أن يكون الفوز داخل النقابة بمناصبها المختلفة - عليه تباين مستوياتها وأيا كان موقعها - مرتبطا بالإرادة الحرة لأعضائها، وبشرط أن يكون لكل عضو انضم إليها - الفرص ذاتها - التي يؤثر بها - متكافئا في ذلك مع غيره - في تشكيل سياستها العامة وبناء مختلف تنظيماتها وفاء بأهدافها وضماناً لنهوضها بالشئون التي تقوم عليها. ثانيهما: أن الحرية النقابية لا تعتبر مطلباً لفئة بذاتها داخل النقابة الواحدة، ولا هي من امتيازاتها. بل يتعين أن يكون العمل النقابي إسهاما جماعيا لا يتمحض عن انتقاء حلول بذواتها تستقل الأقلية بتقديرها وتفرضها عنوة. ذلك أن تعدد الآراء داخل النقابة الواحدة وتفاعلها، إثراء لحرية النقاش فيها، لتعكس قراراتها ما تتصوره القاعدة الأعرض من الناخبين فيها مبلوراً لأفكارهم، ومحددا لمطالبهم، إنفاذا لإرادتهم من خلال أصواتهم التي لا يجوز تقييد فرص الإدلاء بها دون مقتض، ولا فرض الوصاية عليها.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة 65 من قيام النقابات واتحاداتها عليه أساس ديموقراطي، يدل عليه أن حكمها جاء عاما مطلقا، منصرفا إلى كل تنظيم نقابي - مهنيا كان أو عماليا - ممتدا إلى تشكيلاتها جميعا - عليه تباين مستوياتها ودرجاتها - كاشفا عن أن العمل النقابي لا يؤمن مصالح جانبية محدودة أهميتها، بل يوفر للمنضمين إليه، الحقائق الكاملة التي يحددون من خلالها أولوياتهم، ويفاضلون عليه ضوئها بين من يتزاحمون من بينهم عليه الظفر بعضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية التي ينتمون إليها.

وحيث إن ضمان الدستور - بنص المادة 74 منه - لحرية التعبير عن الآراء، والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها. وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة. وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقا.

وحيث إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير، هو أن يكون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير ونقلها إليه، غير مقيد بالحدود الإقليمية عليه اختلافها، ولا منحصر في مصادرة بذواتها تعد من قنواتها، بل قصد أن تترامي آفاتها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها، وأن تنفتح مسالكها، وتفيض منابعها [Marketplace of ideas] [Free trade in ideas] لا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفا بها، مقتحما دروبها، ذلك أن لحرية التعبير أهدافاً لا تريم عنها، ولا يتصور أن تسعى لسواها، هي أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جليا، فلا يداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها. ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفاً عليه ما يكون منها زائفا أو صائباً، منطوياً عليه مخاطر واضحة، أو محققا لمصلحة مبتغاة. ذلك أن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير، أن تكون مدخلاً إلى توافق عام، بل تغيا بصونها أن يكون كافلا لتعدد الآراء  Plurality of opinions وإرسائها عليه قاعدة من حيدة المعلومات  neutrality of information ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل، ومحدداً لكل اتجاه.

وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 74 من الدستور، أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقا عليه صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها عليه مظاهر الحياة في أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها عليه العقل العام Public mind، فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقاً دون تدفقها.

وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها، لا يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها. بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها - وعلانية - تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة - إحداثا من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد يكون مطلوبا. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا في غيبة حرية التعبير. كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 74 من الدستور، لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، بل كذلك اختيار الرسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها، ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها. ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير، أن يكون الإيمان بها شكليا أو سلبيا. بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها، وألا يفرض أحد عليه غيره صمتا ولو بقوة القانون Enforced silence.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين القول بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور، هي القاعدة في كل تنظيم ديموقراطي، لا يقوم إلا بها. ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وإن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأعراض المقصودة من إرسائها.

وحيث إن الحق في التجمع، بما يقوم عليه من انضمام عدد من الأشخاص إلى بعضهم لتبادل وجهات النظر في شأن المسائل التي تعنيهم. من الحقوق التي كفلتها المادتان 45، 55 من الدستور، وذلك سواء نظرنا إليه باعتباره حقاً مستقلاً عن غيره من الحقوق، أم عليه تقدير أن حرية التعبير تشتمل عليه باعتباره كافلا لأهم قنواتها، محققا من خلالها أهدافها.

وحيث إن هذا الحق - وسواء كان حقاً أصيلا أم تابعا - أكثر ما يكون اتصالا بحرية عرض الآراء وتداولها كلما أقام أشخاص يؤيدون موقفا أو اتجاها معينا، تجمعا منظما  ordered assemblage يحتويهم، يوظفون فيه خبراتهم، ويطرحون آمالهم، ويعرضون فيه كذلك لمصاعبهم، ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم، ليكون هذا التجمع نافذة يطلون منها عليه ما يعتمل في نفوسهم، وصورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعي collective thinking وكان تكوين بنيان كل تجمع وسواء كان الغرض منه سياسيا أو نقابيا أو مهنياً لا يعدو أن يكون عملا اختياريا لا يساق الداخلون فيه سوقاً، ولا يمنعون من الخروج منه قهراً. وهو في محتواه لا يتمحض عن مجرد الاجتماع بين أشخاص متباعدين ينعزلون عن بعضهم البعض. بل يرمي بالوسائل السلمية إلى أن يكون إطارا يضمهم، ويعبرون فيه عن مواقفهم وتوجهاتهم. ومن ثم كان هذا الحق متداخلا مع حرية التعبير، ومكونا لأحد عناصر الحرية الشخصية التي لا يجوز تقييدها بغير إتباع الوسائل الموضوعية والإجرائية التي يتطلبها الدستور أو يكفلها القانون، واقعا عند البعض في نطاق الحدود التي يفرضها صون خواص حياتهم وأعماق حرمتها بما يحول دون اقتحام أغوارها أو تعقبها لغير مصلحة جوهرية لها معينها، لازما اقتضاءً ولو لم يرد بشأنه نص في الدستور، كافلا للحقوق التي أحصاها ضماناتها، محققا فعالياتها، سابقا عليه وجود الدساتير ذاتها، مرتبطا بالمدنية في مختلف مراحل تطورها، كامنا في النفس البشرية، تدعو إليه فطرتها. وهو فوق هذا من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها.

بل إن حرية التعبير ذاتها تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم. وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض، بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها البعض، ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكال الاجتماع.

ذلك إن الانعزال عن الآخرين يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها، ولو كان أفقها ضيقا Narrowness  أو كان عقمها أو تحزبها One - Sidedness باديا.

كذلك فإن هدم حرية الاجتماع، إنما يقوض الأسس التي لا يقوم بدونها نظام الحكم يكون مستنداً إلى الإرادة الشعبية. ولا تكون الديموقراطية فيه بديلاً مؤقتاً، أو إجماعا زائفا، أو تصالحا مرحليا لتهدئة الخواطر. بل شكلاً مثالياً لتنظيم العمل الحكومي وإرساء قواعده. ولازم ذلك امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون، وفي الحدود التي تتسامح فيها النظم الديموقراطية، وترتضيها القيم التي تدعو إليها.

وحيث إن من المقرر كذلك أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور أو المشرع صفتها التمثيلية، لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم. ذلك أن هذين الحقين مرتبطان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما. ولا يجوز بالتالي أن تفرض عليه مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتهاIntegrity and reliability of the electoral Process  أو بما يكون كافلاً إنصافها، وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها، بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها، بما يصون حيدتها، ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين فيها. ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من عمال المنظمة النقابية - ودون أسس موضوعية - من فرص الفوز بعضوية مجلس إدارتها. ذلك أن آثرها هو إبعاد هؤلاء عن العملية الانتخابية بأكملها، وحجبهم بالتالي عن الإسهام فيها. بما مؤداه احتكار غرمائهم لها وسيطرتهم عليها دون منازع، وإنهاء حق المبعدين في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجهاتهم، وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين، وبوجه خاص، كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم.

بل إن القيم العليا لحرية التعبير - بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها - ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلا ومفتوحا، بل مقصوراً عليه فئة بذاتها من أعضاء المنظمة النقابية، أو منحصراً في مسائل بذواتها لا يتعداها.

كذلك فإن حق الناخبين في الاجتماع مؤداه، ألا تكون الحملة الانتخابية - التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم وإطارا يحددون من خلاله أولوياتهم - محدودة آفاقها، بما تفضي إليه من تضاؤل فرصهم التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين، وانتقاء من يكون من بينهم شريكا معهم في أهدافهم  Like - minded Citizens قادرا عليه النضال من أجل تحقيقها.

وحيث إن المهنيين الذين انضموا إلى المنظمة النقابية العمالية لا يتمكنون وفقا للنص المطعون فيه من الظفر بعضوية مجلس إدارتها، إلا في الحدود التي لا تزيد فيها نسبتهم إلى مجموع عدد أعضاء هذا المجلس عن 20%، وهو ما يعني انغلاق طريقهم إلى مجلس إدارة تلك المنظمة بعد أن خاضوا انتخاباتها وفازوا فيها لمجرد مجاوزتهم لتلك النسبة التي حددها النص المطعون فيه دون أسس موضوعية تظاهرها، بما مؤداه إهدار إرادة القاعدة العمالية التي منحتهم ثقتها على ضوء اقتناعها بموقفهم من قضاياها، وحرمانها من أن تفاضل - من خلال البرامج التي طرحتها الحملة الانتخابية - بين عدد أكبر من المرشحين يكونون أقدر عليه بلورة أفكارها، والنضال من أجل بناء مواقفها، وكان من المقرر أن اتساع قاعدة الاختيار فيما بين المرشحين، ضمانة أساسية تكفل لهيئة الناخبين ظروفاً أفضل تمنح من خلالها ثقتها لعناصر من بينهم تكون أجدر بالدفاع عن مصالحها، وكان النص المطعون فيه لا يطلق قاعدة الاختيار هذه، بل يحد من دائرتها ويضيق من نطاقها، مُؤَثِّراً بذلك في حق الاقتراع بما ينال من فعاليته، فإن ذلك النص ينحل من الناحية الدستورية إلي فرض نوع من الوصاية على القاعدة العمالية، ويؤول إلي تفككها أو اضطرابها أو بعثرة تكتلاتها من خلال إلزامها بأن تمنح ثقتها لغير من وقع عليهم اختيارها ابتداءً، وأن تكون لها موازين جديدة تقدر على ضوئها من تٌصَعِّدهم - من دونهم - إلي مجلس إدارة المنظمة العمالية، وقد يكونون أقل منهم شأنا سواء في صلابتهم أو قدرتهم على ابتكار الحلول الملائمة لقضاياها. وهو ما ينال كذلك من حرية القاعدة العمالية في التعبير عن مواقفها من خلال تجمعاتها التي تعد إطاراً ومحوراً لكل تنظيم انتخابي يحدد مطالبها.

وحيث إن القول بأن النص المطعون فيه، يعكس تناسباً عددياً بين المهنيين المنضمين إلي المنظمة النقابية العمالية وغيرهم من العمال أعضائها، مردود أولاً بانتفاء الدليل على صحته، ومردود ثانياً بأن اختيار من يمثلون أعضاء النقابة بمجلس إدارتها ليس مرتبطا بموقعهم من النقابة ذاتها، وما إذا كانوا هم الأكثر أو الأقل عدداً بين جموعها، بل بقدرتهم على تأمين مصالحها. ومردود ثالثاً بأن إبطال عضويتهم بمجلس إدارة المنظمة النقابية بعد الفوز بها، لا يعدو أن يكون تحريفاً لإرادة الناخبين، مع حملهم على إبدال من منحوه ثقتهم بغيره، وليس ذلك إلا تشويها لحق الاقتراع وانحرافاً عن الأغراض التي يتوخاها.

وحيث إنه لا مساغ كذلك للقول بأن النص المطعون عليه، يكفل للحركة النقابية العمالية وحدتها ويضمن ولاء العمال لأهدافها، ذلك أن المنظمة النقابية ذاتها ومن خلال برامجها وتوجهاتها وعلى ضوء نضالها من أجل الدفاع عن مصالحها، هي التي توحد بين أعضائها، فلا يتحولون عنها أو يفارقونها. كذلك فإن ولاءهم لها رهن بصون الحرية النقابية في مضمونها ووسائلها. ولنقابتهم أن تسائلهم تأديبياً إذا لم يلتزموا بميثاقها، أو كان سلوكهم مشينا مناهضاً لها. وليس جائزاً بحال - من وجهة أخرى - أن تعطل وحدة الحركة النقابية العمالية أو الولاء لأهدافها، حقوقا كفلها الدستور للعمال المنضمين إليها.

وحيث إن من المقرر أنه إذا كفل الدستور حقاً من الحقوق، فإن القيود عليه لا يجوز أن تنال من محتواه إلا بالقدر وفي الحدود التي ينص عليها الدستور، وكان ضمان الدستور بنص المادة 26 لحقي الانتخاب والترشيح اللذين كفلهما لكل مواطن وفقاً لأحكام القانون، وإن تقيد بنصوص بعض مواده الأخرى، كالمادتين 62، 78 منه التي توفر أولهما لصغار الفلاحين وصغار الحرفيين 80% على الأقل من مقاعد مجلس إدارة الجمعية التعاونية الزراعية أو الجمعية التعاونية الصناعية، وتنص ثانيتهما على أن يكون نصف عدد أعضاء مجلس الشعب على الأقل من العمال والفلاحين، إلا أن هذه القيود مرجعها إلي النصوص الدستورية ذاتها، ولا يجوز أن يقاس تشريعياً عليها وإلا كان القانون مخالفاً للدستور.

وحيث إن الدساتير المصرية جميعاً بدءاً بدستور سنة 1923 وانتهاء بالدستور القائم، رددت جميعها مبدأ المساواة القانونية  De Jureكافلة تطبيقه عليه جميع المواطنين باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، وباعتباره الضمانة الرئيسية لصون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ في جوهره وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها عليه الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين في حدود سلطته التقديرية، وعليه ضوء ما يرتئيه محققاً للمصلحة العامة.

ولئن نص الدستور في المادة 40 منه، على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بعينها، هي تلك التي يقوم التمييز فيها عليه أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها، مرده أنها الأكثر شيوعا في الحياة العملية، ولا يدل البتة عليه انحصاره فيها. إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً، وهو ما يناقض المساواة التي كفلها الدستور، ويحول دون إرساء أسسها، وبلوغ غايتها.

وآية ذلك إن من صور التمييز التي أغفلتها المادة 40 من الدستور ما لا يقل عن غيرها خطراً سواء من ناحية محتواها أو من جهة الآثار التي ترتبها، كالتمييز بين المواطنين في نطاق الحقوق التي يتمتعون بها، أو الحريات التي يمارسونها، لاعتبار مرده إلى مولدهم، أو مركزهم الاجتماعي، أو انتمائهم الطبقي، أو ميولهم الحزبية، أو نزاعاتهم العرقية، أو عصبيتهم القبلية، أو إلى موقفهم من السلطة العامة، أو إعراضهم عن تنظيماتها، أو تبنيهم لأعمال بذاتها، وغير ذلك من أشكال التمييز التي لا تظاهرها أسس موضوعية تقيمها، وكان من المقرر أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها عليه قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها، وبوجه خاص عليه صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك من مظاهر الحياة العامة. متى كان ذلك وكان النص المطعون عليه قد استبعد المهنيين - الذين تزيد نسبتهم في مجلس إدارة المنظمة النقابية عن 20% من مجموع مقاعده - من الظفر بعضوية هذا المجلس رغم تماثلهم مع عمال النقابة من غير المهنيين في مراكزهم القانونية لانضوائهم جميعا تحت نقابة واحدة تتكافأ حقوقهم وواجباتهم فيها، ودون أن يستند التمييز بين هاتين الفئتين إلى أسس موضوعية يقتضيها التمثيل في مجلس إدارة تلك المنظمة، فإن هذا التمييز يكون تحكميا، ومنهيا عنه بنص المادة 40 من الدستور.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان النص المطعون عليه يخل بالحقوق التي كفلها الدستور في مجال تكوين التنظيم النقابي عليه أساس ديمقراطي، وكذلك بحرية التعبير والاجتماع، وبحقي الترشيح والاقتراع وبمبدأ المساواة أمام القانون، وهي الحريات والحقوق المنصوص عليها في المواد 40، 74، 55، 65، 26 من الدستور، فإنه يكون قد وقع في حمأة المخالفة الدستورية، ويتعين الحكم ببطلانه.

وحيث إن ما ورد بعجز الفقرة الأولي من المادة 83 المشار إليها من أنه [وذلك ما لم تكن أغلبية المنظمة النقابية من المنضمين إلى نقابات مهنية]، يرتبط ارتباطا لا يقبل التجزئة بنطاق الطعن الماثل باعتباره استثناء من قاعدة الحظر التي فرضها النص المطعون عليه، فإن هذا الاستثناء يسقط تبعاً للحكم ببطلان ذلك النص.

 فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الأولي من المادة 38 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976 فيما تضمنته من عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس إدارة المنظمة النقابية والعضوية العاملة في نقابة مهنية بما يزيد عليه 20% من مجموع عدد أعضاء هذا المجلس، وبسقوط باقي نص هذه الفقرة، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

العودة للصفحة الرئيسية