المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 40 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: تعليم - دستور - دعوى دستورية - قانون - مبدأ المساواة - معوقون

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 2 سبتمبر 1995 م، الموافق 6 ربيع الآخر 1416 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عادل عمر شريف

المفوض

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 40 لسنة 16 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ ...

ضد

 

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيد/ المستشار وزير العدل

الإجراءات

بتاريخ 7 ديسمبر سنة 1994 أودع المدعي، قلم كتاب المحكمة، صحيفة الدعوى الماثلة طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن نظام التأمين الصحي على الطلاب.

وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد أقام أمام محكمة بندر ثان طنطا الدعوى رقم 45 لسنة 1994، بطلب الحكم برد المبالغ التي دفعها مقابل التأمين الصحي على أولاده الثلاثة الملحقين بإحدى المدارس الخاصة بمصروفات، وقال شرحا لدعواه إنه عملا بحكم المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن التأمين الصحي على الطلاب، كان عليه أن يدفع مبالغ سنوية عن أولاده الملتحقين بمدارس خاصة بمصروفات، تمثل حصتهم في التأمين الصحي. وهي مبالغ تزيد كثيرا عما تقتضيه الدولة من نظرائهم في المدارس الحكومية والمعاهد الأزهرية والمدارس الخاصة المعانة. وأثناء نظر دعواه الموضوعية، دفع بعدم دستورية المادة الثالثة من القانون المشار إليه. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، وصرحت له بأن يقيم دعواه الدستورية، فرفعها.

وحيث إن المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن التأمين الصحي على الطلاب، تنص على ما يأتي:

"يمول نظام التأمين الصحي على الطلاب على النحو الآتي:

(أ) الاشتراكات السنوية التي يتحملها الطالب في كل مرحلة من المراحل، والتي تسدد كل عام دراسي وفقا للتنظيم، وفي المواعيد التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الصحة بالاتفاق مع الوزير المختص بواقع: أربعة جنيهات عن كل طفل من رياض الأطفال، وكل طالب من طلاب التعليم الأساسي والثانوي بأنواعه، والمدارس الفنية نظام الخمس سنوات، والمدارس الفنية التجريبية التحضيرية. 10% من قيمة المصروفات التعليمية السنوية، عن كل طفل من رياض الأطفال الخاصة، وكل طالب من طلاب المدارس الخاصة بمصروفات بحد أقصى قدره خمسون جنيها.

(ب) الاشتراكات السنوية التي تتحملها الخزانة العامة، بواقع اثني عشر جنيها عن كل طالب في المدارس ورياض الأطفال المملوكة للدولة، والمدارس الخاصة المعانة.

(ج) مساهمة الطالب في ثمن الدواء خارج المستشفى بواقع الثلث، عدا حالات الأمراض المزمنة التي تحدد بقرار من وزير الصحة، فيعطى الدواء للطلاب مجانا، وكذلك الجهاز التعويضي، مرة واحدة كل سنتين، كلما اقتضت الحاجة ذلك.

(د) حصيلة الزيارات المنزلية بما لا يقل عن ثلاثة، جنيهات ولا يجاوز خمسة جنيهات، عن كل زيارة منزلية وفقا لمكان إقامة الطالب، وطبقا للقواعد التي يصدر بها قرار وزير الصحة.

(هـ) الإعانات والتبرعات والهبات التي تقدم لأغراض هذا النظام.

(و) حصيلة رسم تأمين صحي بمقدار عشرة قروش، تفرض على كل عشرين سيجارة مباعة بالسوق المحلى، سواء الوطنية أو الأجنبية...".

وحيث إن المدعي ينعى على المادة الثالثة المشار إليها، إلزامها طلاب المدارس الخاصة بمصروفات، بأداء اشتراكات سنوية لمقابلة خدمات التأمين الصحي المقدمة لهم، تزيد في مقدارها عن تلك التي تقتضيها الدولة من نظرائهم الذين التحقوا بالمدارس الحكومية والمدارس الخاصة المعانة أو المعاهد الأزهرية، والذين يتمتعون بذات الخدمات، مما يخل بمبدأ المساواة أمام القانون، باعتبار أن التمييز بين هاتين الفئتين لا يقوم على روابط منطقية، بل يعد تمييزا تحكميا منهيا عنه بنص المادة 40 من الدستور. كذلك فإن الأصل في خدمات التأمين الصحي، أن تقدمها الدولة لمستحقيها من الطلاب، عند توافر موجباتها، سواء بسبب عجزهم أو مرضهم. ولا صلة لها بالتالي - وبوصفها حقا تكفله الدولة للمواطنين جميعا على ما تقضي به المادة 17 من الدستور - بما إذا كانت المدارس التي يلتحقون بها حكومية، أو مشبهة بها، أو من المدارس الخاصة غير المعانة. ولا يسوغ القول، بأن تلك المغايرة في القواعد القانونية التي تحكم هاتين الفئتين، مردها ضرورة تعاون القادرين مع غير القادرين في إطار العدالة الاجتماعية. ذلك إن هذا المفهوم، وإن صح أن يكون أساسا للضريبة العامة، إلا أن الطلاب جميعهم يتمتعون بالخدمة الصحية عينها، وبالوسائل ذاتها، ودون تمييز فيما بينهم. ويتعين بالتالي أن يكون مقابل هذه الخدمة واحدا بالنسبة إليهم. وافتراض ملاءة أولياء الأمور الذين ألحقوا أبناءهم بالمدارس الخاصة غير المعانة، لا دليل عليه، ولا تظاهره أية مصلحة اجتماعية.

وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا، مستقر على أن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازما للفصل في الطلبات المرتبطة بها المطروحة على محكمة الموضوع، وكانت مناعي المدعي تدور جميعها حول الزيادة في الاشتراكات السنوية المنصوص عليها في البند (أ) من المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن التأمين الصحي على الطلاب، والتي مايز المشرع بها، بين الالتزامات المالية للملتحقين بالمدارس الحكومية الخاصة غير المعانة، ومن عداهم، دون غيرها من الخدمات التي ساواهم فيها بنظرائهم - كالزيارات المنزلية والمساهمة في ثمن الأدوية - إذ تتكافأ فئتها المالية فيما بين الطلاب جميعهم، وكانت الاشتراكات السنوية التي نازع المدعي فيها - والتي يتصل بها النزاع الموضوعي - هي تلك التي تم تحصيلها منه استنادا إلى البند (أ) من المادة الثالثة المشار إليها، فإن نطاق الطعن ينحصر في هذا البند، ولا يمتد لسواه من البنود التي انتظمتها هذه المادة.

وحيث إن الدستور، نص في المادة 18 على أن يكون التعليم حقا، وإلزاميا في المرحلة الابتدائية، مع جواز مد هذا الإلزام إلى مراحل أخرى تتصل حلقاتها، وتتضافر مكوناتها، ليكون قوامها جميعا بنيانا صلبا متماسكا، نفاذا إلى آفاق العلوم واقتحاما لدوربها، وارتباطا بحقائق العصر ومعطياته، وبوسائل التنمية وأدواتها، وبعوامل القوة ومظاهرها، وبموازين الصراع والوفاق، وبقيم الحق والخير والجمال، وبتكامل الشخصية الإنسانية لا تراجعها، وبنواحي التقدم ومناحي القصور، وبإنماء التقاليد التربوية والخلقية والثقافية وتكريسها، وبألوان الإبداع وأشكال الفنون إطلالا عليها وتزودا بها، وبالمعايير التي التزمتها الأمم المتحضرة تأمينا لحقوق مواطنيها وحرياتهم، وبالعوامل الجوهرية التي تكفل للوطن والمواطن آمالا لا ينحصر محيطها، بل تمتد دائرتها إلى غير حد، إيمانا بغد أفضل، قوة وبأسا، حقا وعدلا، واقعا ومصيرا. 

وحيث إن الدستور حرص فوق هذا - وبنص المادة 18 ذاتها - على ألا تقف الدولة من التعليم موفقا سلبيا، وإنما حملها مسئولية الإشراف على مختلف صوره. وعزز دورها بإلزامها أن تكفل استقلال التعليم الجامعي، ومراكز البحث العلمية على اختلافها، تطويرا لرسالتها، وبما يكفل انفتاح مجالاتها دون قيد، متوخيا بذلك أن تتكامل العملية التعليمية في وسائلها وغاياتها، وأن تتعدد روافدها لتكون نهرا متصلا، فلا تنعزل بعض حلقاتها عن بعض، بل تتحد أجزاؤها وتتعاون عناصرها، لتقيم بنيانها الحق، وأن يكون نبعها تلك القيم والتقاليد الغائرة في أعماق بيئتها، وما ذلك إلا لأن قيمتها تتمثل بصفة رئيسية في انبثاقها عن مجتمعها، وتعبيرها عن المصالح والأسس التي يقوم عليها، تثبيتا لها، وتعميقا لمضمونها.

وحيث إن التعليم - على ضوء ما تقدم - كان ولازال من أكثر المهام خطرا، وأعمقها اتصالا بآمال المواطنين وطموحاتهم، وأوثقها ارتباطا بمصالح الجماعة ومقاييس تقدمها، وكان على الدولة بالتالي أن تهيمن على عناصره الرئيسية، وأن توليه رعايتها، وأن توفر لدور التعليم - وبقدر طاقتها - شرايين الحياة الجوهرية التي لا تقوم إلا بها، وأن يكون إنفاقها على التعليم، تعبيرا عن اقتناعها بأن ثماره عائدة في منتهاها إليها. وأن اجتناءها بيد مواطنيها، فليس التعليم حرثا في البحر، بل هو نبض الحياة وقوامها، لا تستقيم بغيره شئونها، ولازال متطلبا كشرط مبدئي لمواجهة المواطنين لمسئولياتهم مع تنوعها وشمولها، ليكون اضطلاعهم بها منتجا وفعالا، وهو كذلك تعميق لمشاعر الانتماء، يتمخض إلهاما للضمائر، وتقريرا للحقائق، واستنهاضا للهمم، نحو ما ينبغي أن يكون نهجا قويما للعمل، واستثارة لتلك القيم والمثل العليا التي يكون غرسها وإيقاظها في النشىء، مشكلا لعقولهم، محددا مآلا أنماطا لتصرفاتهم، فلا يوجهون - في الأعم - طاقاتهم بددا، ولا يتراجعون عن الإقدام طريقا، ولا يتخاذلون أو يمارون، بل يوازنون بين حقوقهم وواجباتهم، مستبصرين حدودها، فلا يتفرقون أو يفرطون.

والتعليم فوق هذا يعدهم للحياة. ويدربهم على مواجهة صعابها، ويقيم لهم معالمها، فلا تتنافر وسائلها، أو تتعارض ملامحها. وهم أسوياء بالتعليم، يتوافقون مع بيئتهم، ويندمجون في مجتمعاتهم، فلا يسعون لغير مظاهر التفوق إصرارا، ولا يميلون عن الحق طريقا، ليكون التعليم دوما حقا أصيلا لا تابعا، لا تداخل الأهواء فرص النفاذ إليه، ولا تمليها نزوة عابرة، بل يكون القبول بالمعاهد التعليمية على اختلافها، محددا وفق أسس موضوعية تستقيم بها متطلبات ممارسة هذا الحق، فلا يكون التعليم على ضوئها شكليا أو رمزيا، ولا يقيد المشرع من مداه اعتسافا، بل يكون ملبيا - واقعا ومضمونا - للأغراض التي يتوخاها أصلا، وموازنا بين مستواه في مرحلة بذاتها، وما ينبغي أن يلائمها من شروط الالتحاق بها، على ضوء نظره كلية تكفل الارتقاء بالجماعة حضاريا، وإنماء طرائق النظر والاستدلال، لتطوير العلوم في مختلف مجالاتها، والتمكين من أسبابها. وحيث إن الحق في التعليم فحواه، أن يكون لمن يطلبونه الحق في ضمان قدر منه يلتئم مع مواهبهم وقدراتهم، وكذلك اختيار نوع من التعليم يكون أكثر اتفاقا مع ملكاتهم وميولهم. ولا ينحصر الحق في التعليم، في مجرد النفاذ إليه وفق الشروط الموضوعية التي تتحدد على ضوئها فرص قبول الطلبة بالمعاهد التعليمية، كتلك التي تتصل بملاءمة تكوينهم علميا واستعدادهم ذهنيا ونفسيا لنوع وخصائص المناهج الدراسية بتلك المعاهد، وعلى ضوء مستوياتها الأكاديمية، ذلك أن الالتحاق بالمعاهد التعليمية وفق الشروط الموضوعية المحددة للقبول بها، يعتبر مشتملا بالضرورة على حق الانتفاع بمرافقها وتسهيلاتها وخدماتها، بقدر اتصالها بالعملية التعليمية في ذاتها، وارتباطها بما يكفل تكامل عناصرها، وبلوغ غاياتها، يؤيد ذلك أن الاعتبار الأظهر في العملية التعليمية، وإن كان عائدا أصلا إلى خصائص مناهجها الدراسية ومستوياتها، وكذلك إلى شروط تكوين الهيئة التي تقوم بتدريسها، وعلى الأخص من زاوية كفاءتها العلمية، وقدرتها على الاتصال بالطلبة، والتأثير فيهم وجذبهم إليها، وإشرابهم تلك القيم والمثل التي تمليها المصالح الحيوية في درجاتها العليا، إلا أن ذلك لا يقلل من دور مرافق المعاهد التعليمية وخدماتها، كتلك التي هيأتها لدعم النواحي الرياضية والترويحية والصحية لطلبتها، وكذلك تلك التي أنشأتها لاستثارة مواهبهم نهوضا برسالتها. إذ لا تستقيم أغراض التعليم لغير الأسوياء الأصحاء - القادرين بدنيا ونفسيا - على النظر في العلوم وتدبرها وإنشاء علائق اجتماعية مع زملائهم، والاندماج في محيطهم.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن التعليم حق، وأن العملية التعليمية تتكامل عناصرها، فلا يجوز تبعيضها بفصل بعض أجزائها عن البعض، ذلك أن تضافر مكوناتها هو الضمان لفعاليتها، لتمتد الحماية التي كفلها الدستور للحق في التعليم، إلى كل العناصر التي يتألف منها، فلا يجوز تعطيل بعض جوانبها أو تقييدها بنصوص قانونية أو تدابير إدارية من شأنها الإخلال بركائز التعليم بما ينال من محتواه، وبوجه خاص يجب أن تتخذ السلطات العامة جميعها، التدابير التي يقتضيها إنهاء التمييز غير المشروع، سواء في مجال شروط القبول في المعاهد التعليمية، أو من خلال القواعد التي تفرق بين الطلبة في شأن مصروفاتهم، أو منحهم الدراسية، أو فرص متابعتهم لتعليمهم في الدول الأجنبية. وبوجه عام، لا يجوز للمعاهد التعليمية أن تمايز بين طلبتها في شأن صور التعامل وأشكال العلائق التي ترتبط بها معهم، ما لم يكن التمييز بينهم، مستندا إلى جدارتهم، أو متصلا بأوضاع تلك المعاهد واحتياجاتها.

 ولا يسوغ كذلك أن تتخذ السلطات العامة، من أشكال المعونة التي تقدمها إلى المعاهد التعليمية، - وأيا كان مقدارها - موطئا لتقييد حقوق فئة بذاتها من طلبتها، أو تقديمها وتفضيلها على نظرائهم، وليس لها أن تعطل حق أولياء أمور الطلبة في إلحاق أبنائهم بمعاهد تعليمية غير التي أنشأتها، بشرط ألا يقل مستواها عن الحدود الدنيا التي تتطلبها الجهة ذات الاختصاص بتنظيم شئون التعليم.

وفضلا عما تقدم، لا يجوز، أن يكون انتفاع طلبة المعاهد التعليمية، بمرافقها أو خدماتها، مرتبطا بقدراتهم المالية، ذلك أن التمييز بين المواطنين - "في مجال مباشرتهم للحقوق الأساسية عينها" - على ضوء ثرواتهم، كان دائما أمرا محظورا منهيا عنه دستوريا.

ولئن صح القول بأن الأصل في التعليم الخاص، هو جوازه في الحدود التي يبينها المشرع، وبما لا يناقض نصوص الدستور، وبشرط ألا يكون متوخيا استبعاد فئة بذاتها من المواطنين انحرافا، وأن يكون ملتزما - من حيث مستواه في كل مرحلة تعليمية - بالمقاييس التي تفرضها الجهة الإدارية ذات الاختصاص في شأن المرحلة المناظرة، فإن من الصحيح كذلك أن الحماية التي يكفلها الدستور للحق في التعليم - بكل العناصر التي يشتمل عليه - إنما تمتد إلى المعاهد التعليمية جميعها، بغض النظر عمن يملكها أو يديرها.

وحيث إن الأسس السالف بيانها، هي التي تبنتها المواثيق الدولية. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يؤكد في ديباجته، أن الحقوق المنصوص عليها فيه، مرجعها إيمان شعوب الأمم المتحدة بالحقوق الأساسية للإنسان، وبقيمة كل فرد وكرامته، وضرورة أن يعامل مع غيره وفقا لمقاييس تتكافأ مضموناتها، فلا يضطر مع غيابها إلى مقاومة القهر والطغيان، وإنما يكون ضمانها كافلا لمعايير أفضل لحياة تزدهر مقوماتها في إطار حرية أعمق وأبعد.

وكان من بين هذه الحقوق، تلك المنصوص عليها في المادة 26 من ذلك الإعلان في شأن التعليم، فقد جاء حكمها صريحا في أن لكل إنسان حقا فيه، ويجب أن يقدم مجانا على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية، ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا، فإذا كان التعليم فنيا أو مهنيا، وجب أن يكون متاحا بوجه عام. ولا يتاح التعليم العالي إلا على أساس من الجدارة والاستحقاق، وللآباء حق أولى A prior right في اختيار نوع بذاته من التعليم لأبنائهم. وتؤكد المادة 13 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أن التعليم حق ينبغي أن يكون موجها نحو التطوير الكامل للشخصية الإنسانية، معززا الاحترام لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، مقترنا بضمان حق الناس جميعا في مجال الإسهام الفعال في بناء مجتمعاتهم الحرة، ومؤديا لتعميق الفهم والتسامح بين الأمم ودعم صداقتها. كذلك يبين من الاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والشئون العلمية والثقافية في 14 ديسمبر 1960 في شأن مناهضة التمييز في مجال التعليم.Convention against discrimination in education adopted on 14th December, 1960, by the General Conference of The United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) إن هذا التمييز، يمثل انتهاكا للحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإن منظمة اليونسكو، تؤكد أن احترامها للتنوع في النظم التعليمية الوطنية، لا يجوز أن يخل بالتزامها - ليس بتحريم أشكال التمييز في نطاق التعليم على اختلافها فحسب - بل كذلك بالعمل على إرساء التكافؤ في الفرص والمعاملة المتساوية على صعيد التعليم، ليكون حقا مكفولا لكل إنسان. ذلك أن أشكال التمييز - على تباينها - تكتنفها مخاطر بعيدة آثارها. وكان لازما بالتالي أن يتناولها تنظيم دولي، يكون منهيا لصورها غير المبررة. وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الأولى من الاتفاقية الآنف بيانها، ذلك أن التمييز وفقا لحكمها يعني كل تفرقة Distinction أو تقييد Limitation أو استبعاد Exclusion أو تفضيل Preference يستند إلى لون الأشخاص أو جنسهم أو لغتهم أو عقائدهم أو آرائهم، أو أصلهم الوطني أو الاجتماعي أو "حالتهم الاقتصادية" Economic Condition إذا كان هذا التمييز يتوخى، أو من أثره، إلغاء المعاملة المتكافئة في مجال التعليم أو الإخلال بها، ويندرج تحت ذلك بوجه خاص حرمان شخص أو مجموعة من الأشخاص من النفاذ إلى التعليم بمختلف صوره ومراحله، أو إلزامهم الالتحاق بأشكال من التعليم تنحدر مستوياتها، أو فرض أوضاع عليهم تأباها كرامة الإنسان وتنافيها، أو إنشاء نظم تعليمية أو إبقاؤها إذا كان هدفها الفصل بين الأشخاص تبعا لجنسهم، ما لم يكن حق النفاذ إليها متكافئا من خلال دور للتعليم تتعادل مستوياتها سواء من ناحية خصائص أبنيتها أو تجهيزاتها، أو كفاءة مدرسيها وقدراتهم، أو نوع مناهجها. وعملا بالفقرة الثانية من المادة الأولى من تلك الاتفاقية، يقصد بالتعليم - في تطبيق أحكامها - صور التعليم ومختلف مراحله، وهو يشتمل كذلك على حق الالتحاق بالتعليم والنفاذ إلى نوعه ومستواه، والشروط التي يمنح على ضوئها The conditions under which education is given.

ويبين كذلك من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان، أن بروتوكولا برقم (1) ألحق بها، ليضيف إليها بعض الحقوق التي أغفلتها، من بينها الحق في التعليم المنصوص عليه في المادة الثانية من هذا البروتوكول، والتي تقضي بأن حق كل شخص في التعليم لا يجوز إنكاره، وأن على الدولة - في ممارستها لاختصاصاتها -احترام حق الآباء في أن يوفروا لأبنائهم نوعا من التعليم والتدريس، يكون ملبيا لعقائدهم الدينية ومفهوماتهم الفلسفية

وتنص المادة 17 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب African Charter on Human and Peoples Rights على أن لكل فرد حقا في التعليم، وفي الإسهام الحر في الحياة الثقافية لبلده.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان من المحقق أن الحقوق الأساسية للإنسان لا تستمد من صفته كمواطن في بلد ما، بل مردها إلى الخصائص التي تميز الشخصية البشرية وتبرر بالتالي حمايتها وطنيا ودوليا، وكانت الدساتير المصرية جميعها بدءا بدستور سنة 1923 وانتهاء بالدستور القائم، ترد المواطنين جميعا إلى قاعدة موحدة، حاصلها مساواتهم أمام القانون، باعتبارها قواما للعدل وجوهر الحرية والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الأغراض التي تستهدفها، تتمثل أصلا في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، فقد أضحى مبدأ المساواة أمام القانون في أساس بنيانه - وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر مجال تطبيقها على الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك، إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين - في حدود سلطته التقديرية - وعلى ضوء ما يكون قد ارتآه كافلا للصالح العام. 

ولئن نص الدستور في المادة 40، على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بعينها هي تلك التي يقوم التمييز فيها على أساس من الأصل أو الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز فيها محظورا، مرده أنها الأكثر شيوعا في الحياة العملية، ولا يدل البتة على انحصاره فيها، إذ لو صح ذلك - وهو غير صحيح - لكان التمييز فيما عداها جائزا دستوريا، وهو ما يناهض المساواة التي كفلها الدستور، وينقض أسسها ويعطل مقاصدها. وآية ذلك أن من صور التمييز التي أغفلتها المادة 40 من الدستور ما لا تقل عن غيرها وزنا وخطرا سواء في محتواها، أو من جهة الآثار التي تتولد عنها وترتبها، كالتمييز بين المواطنين في نطاق حقوقهم وحرياتهم لاعتبار مرده إلى المولد أو الثروة أو المركز الاجتماعي أو انتمائهم الطبقي أو ميولهم الحزبية وآرائهم، أو عصبيتهم القبلية، أو نزعاتهم العرقية، أو إلى موقفهم من السلطة العامة وإعراضهم عن تنظيماتها، أو مناوئتهم لها، أو تبنيهم لأعمال بذاتها. 

كذلك، فإن الأصل في كل تنظيم تشريعي أن يكون منطويا على تقسيم أو تصنيف Classification أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو المزايا أو الحقوق التي يمنحها لفئة دون غيرها، إلا أن اتفاق هذا التنظيم مع أحكام الدستور، يفترض ألا تنفصل النصوص القانونية - التي نظم بها المشرع موضوعا محددا - عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التي توخاها بالوسائل إليها، منطقيا، وليس واهيا أو واهنا بما يخل بالأسس الموضوعية التي يقوم عليها التمييز المبرر دستوريا. Classification is inherent in legislation in that legislators may select different persons or groups for different treatment. However, the state may not rely on a classification whose relationship to .an asserted goal is so attenuated as to render the distinction arbitrary or irrational

كذلك فإن صور التمييز التي تناقض مبدأ المساواة أمام القانون، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد، ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها، أو من خلال تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانونا للانتفاع بهاEquality before the law requires an absence of .discriminatory treatment except for those in different circumstances

وحيث إنه متى كان ذلك، وكان حق التعليم يعني ابتداء حق الالتحاق بالمعاهد التعليمية وفق الشروط الموضوعية التي تنظم القبول بها، وكان التكافؤ في هذه الشروط فيما بين المتزاحمين على فرص النفاذ إليها، مؤداه تساويهم في المراكز القانونية بالنسبة إلى المرحلة التعليمية التي قبلوا بها، وتعادل حقوقهم في مجال الانتفاع بمرافق معاهدهم وتسهيلاتها وخدماتها، التي تتكامل بها العملية التعليمية وتتصل حلقاتها، وكان التأمين الصحي يندرج تحتها، فقد تعين أن تتكافأ التزاماتهم المالية في مجال هذا التأمين، إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه، يفترض أن الذين يلتحقون بالتعليم الخاص غير المعان، يملكون من مصادر الثروة ما يعينهم على تحمل الأعباء المالية الأثقل، إسهاما من جانبهم بنصيب أكبر في تمويل هذا التأمين، وكان هذا الافتراض لا دليل عليه، ذلك أن هذا النوع من التعليم قد يتمحض طريقا وحيدا متاحا أمامهم لإكمال دراستهم، وقد يتحملون ماليا - سعيا لبلوغ هدفهم هذا - بما لا يطيقون. وقد يزداد موقفهم سوءا من خلال الأعباء المالية الأعلى التي فرضها عليهم النص المطعون فيه، لتتضاءل خياراتهم، بما قد يؤول إلى حرمانهم من الاستمرار في التعليم. وليس ذلك بكل المقاييس نهجا حميدا أو مطلوبا، بل هو إخلال بالتضامن الاجتماعي، وبالحق في التعليم. يؤيد ذلك - بوجه خاص - أمران:

أولهما: أن ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلا يتفرقون بددا، أو يتناحرون طمعا، أو يتنابذون بغيا، وهم بذلك شركاء في مسؤليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق من بينهم أن يتقدم على غيره انتهازا، ولا أن ينال قدرا من الحقوق يكون بها - عدوانا - أكثر علوا، ولا أن يحرم من بعضها بهتانا، بل يتعين أن تتضافر جهودهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق.

ثانيهما: أن افتراض ملاءة أولياء أمور الطلبة الذين يلتحقون بالتعليم الخاص غير المعان - حتى وإن صح - وإلزامهم بأعباء مالية تزيد على غيرهم من نظرائهم، لا يعدو أن يكون تمييزا فيما بينهم على أساس من الثروة "في مجال مباشرتهم للحقوق الأساسية التي كفلها الدستور للمواطنين جميعا على سواء"، لينحل، تمييزا منهيا عنه دستوريا، ذلك أن تكافؤهم في الشروط الموضوعية التي تم على ضوئها قبولهم في مرحلة تعليمية بذاتها، يقتضى بالضرورة تعادلهم في مجال الانتفاع بالمرافق والخدمات التي تتصل بالعملية التعليمية، والتي هيأتها المعاهد التي التحقوا بها، لغيرهم من زملائهم. وآية ذلك، أن القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن التأمين الصحي على الطلاب، وإن مايز بنص البند (أ) من مادته الثالثة - وهو النص المطعون فيه - فيما بين الطلبة بعضهم البعض في شأن اشتراكاتهم السنوية التي يسهمون بها في تمويل هذا التأمين، إلا أن البندين (ج)، (د) من هذه المادة ذاتها، يكفلان مساواتهم جميعا في شأن إسهامهم في ثمن الدواء، وأجر الزيارة الطبية المنزلية.

وحيث إن مؤدى ما تقدم، أن النص المطعون فيه، قد وقع في حمأة المخالفة الدستورية لمخالفته المواد 7، 18، 40 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية ما تضمنه البند (أ) من المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 في شأن التأمين الصحي على الطلاب، من إفراد كل طفل في رياض الأطفال الخاصة، وكل طالب من طلاب المدارس الخاصة بمصروفات، بالتحمل باشتراكات سنوية لتمويل هذا التأمين، تزيد عن تلك التي فرضتها على غيرهم من الطلبة، وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

العودة للصفحة الرئيسية