المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 34 لسنة 15 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

الحفاظ على الموارد المائية

حيث إن التطور الإيجابي للتنمية، لا يتحقق بمجرد توافر الموارد الطبيعية على اختلافها، بل يتعين أن تقترن وفرتها بالاستثمار الأفضل لعناصرها. وإذا كان الماء أغلى هذه الموارد وأكثرها نفعا باعتباره نبض الحياة وقوامها، فلا يجوز أن يبدد إسرافا، فإن الحفاظ عليه قابلا للاستخدام في كل الأغراض التي يقبلها، يغدو واجبا وطنياً، وبوجه خاص في كبرى مصادره ممثلا في النيل والترع المنتشرة في مصر، ليس لإحياء الأرض وحدها أو إنمائها، بل ضمانا للحد الأدنى من الشروط الصحية للمواطنين جميعا، وارتكانا لوسائل علمية تؤمن للمياه نوعيتها، وتطرح الصور الجديدة لاستخداماتها لتعم فائدتها. وإذا كان تراكم الثروة يقتضي جهدا وعقلا واعيا، فإن صون الموارد المائية من ملوثاتها، يعتبر مفترضا أوليا لكل عمل يتوخى التنمية الأشمل والأعمق. بيد أن اتجاها لتلويثها بدا أول الأمر محدودا، ثم تزايد حدة بمرور الزمن، وصار بالتالي محفوفا بمخاطر لا يستهان بها تنال من المصالح الحيوية لأجيال متعاقبة بتهديدها لأهم مصادر وجودها، وعلى الأخص مع تراجع الوعي القومي، وإيثار بعض الأفراد لمصالحهم وتقديمها على ما سواها. وقد كان للصناعة كذلك مخرجاتها من المواد العضوية الضارة التي تتعاظم تركيزاتها أحيانا ليكون تسربها إلى المياه وكائناتها الحية، هادما لخصائصها، وكان لغيرها من الأماكن مخلفاتها أيضا السائلة منها والصلبة والغازية التي تزايد حجمها وخطرها تبعا لتطور العمران تطوراً كبيراً ومفاجئاً، بل وعشوائياً في معظم الأحيان. واقترن ذلك بإهمال التقيد بالضوابط والمعايير التي تجعل صرفها في تلك الموارد المائية على اختلافها مأمونا أو على الأقل محدود الأثر، وكذلك بقصور التدابير اللازمة لرصد مصادر تلوثها والسيطرة عليها أو بمكافحتها بعد وقوعها.

 

الحق في التنمية

حيث إن الحق في التنمية - وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية - وثيق الصلة بالحق في الحياة، وكذلك بالحق في بناء قاعدة اقتصادية تتوافر أسبابها، وعلى الأخص من خلال اعتماد الدول - كل منها في نطاقها الإقليمي - على مواردها الطبيعية ليكون الانتفاع بها حقا مقصورا على أصحابها. وقد أكد الإعلان الصادر في 4/12/1986 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شأن التنمية 128/41 أهميتها بوصفها من الحقوق الإنسانية التي لا يجوز النزول عنها، وأن كل فرد ينبغي أن يكون مشاركا إيجابيا فيها، باعتباره محورها، وإليه يرتد عائدها، وأن مسئولية الدول في شأنها مسئولية أولية تقتضيها أن تتعاون مع بعضها البعض من أجل ضمانها وإنهاء معوقاتها، وأن تتخذ التدابير الوطنية والدولية التي تيسر الطريق إلى التنمية بما يكفل الأوضاع الأفضل للنهوض الكامل بمتطلباتها، وعليها أن تعمل - في هذا الإطار - على أن تقيم نظاماً اقتصاديا دوليا جديداً يؤسس على تكافؤ الدول في سيادتها وتداخل علائقها وتبادل مصالحها وتعاونها. وهذه التنمية هي التي قرر المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا خلال الفترة من 14 إلى 25 يونيو 1993 ارتباطها بالديموقراطية، وبصون حقوق الإنسان واحترامها، وأنها جميعا تتبادل التأثير فيما بينها، ذلك أن الديموقراطية أساسها الإرادة الحرة التي تعبر الأمم من خلالها عن خياراتها لنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإسهامها المتكامل في مظاهر حياتها على اختلافها. كذلك فإن استيفاء التنمية لمتطلباتها - وباعتبارها جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان لا يقبل تعديلا أو تحويلا - ينبغي أن يكون إنصافا لكل الأجيال، لتقابل احتياجاتها البيئية والتنموية، وعلى تقدير أن الحق في الحياة، وكذلك صحة كل إنسان، يتعرضان لأفدح المخاطر من جراء قيام البعض بالإغراق غير المشروع لمواد سمية أو لجواهر خطرة، أو لفضلاتهم ونفاياتهم ومن ثم يدعو المؤتمر الدول جميعها لأن تتعاون فيما بينها من أجل مجابهة هذا الإغراق غير المشروع، وأن تقبل التقيد بكل معاهدة دولية معمول بها في هذا المجال، وتنفيذها تنفيذاً صارما.

 

مبدأ تكافؤ الفرص

مضمون هذا المبدأ [مبدأ تكافؤ الفرص] يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها، وأن إعماله يقع عند التزاحم عليها، وأن الحماية الدستورية لتلك الفرص غايتها تقرير أولوية - في مجال الانتفاع بها - يتقدم من خلالها بعض المتزاحمين على بعض وفق أسس موضوعية تتحدد بها ضوابط هذا التقدم على ضوء متطلباتها من المصلحة العامة، فلا تتقرر انحيازا أو التواء، بل تبصرا واعتدالا.

 

القيود المتعلقة بتقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية

تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية وفقا لنص المادة 16 من الدستور، يقتضيها تدخلا إيجابيا من خلال الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها، ليكون إشباعها لخدماتها هذه، متدرجا وواقعا في حدود إمكاناتها، خلافا لموقفها من الحقوق الفردية السلبية - كالحق في الحياة وفي الحرية - التي يكفيها لصونها مجرد الامتناع عن التدخل في نطاقها بما يقيد أو يعطل أصل الحق فيها.

 

تباين التزامات الدولة تجاه فئتي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق المدنية والسياسية

الحقوق المدنية والسياسية تمهد في الأعم الطريق إلى بناء الهياكل الرئيسية للتنمية وفق الإرادة الحرة، إلا أن الحقوق الاجتماعية والثقافية والصحية تناهض الفقر والجوع والمرض بوجه خاص، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها، ضمانها لكل الناس في آن واحد، بل يكون تحقيقها في بلد ما، مرتبطا بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق بالتالي نفاذا فوريا، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمنا وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعا لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابيا لصونها متتابعا، واقعا في أجزاء من إقليمها، منصرفا لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعا، ذلك أن مسئوليتها عنها، مناطها إمكاناتها، وفي الحدود التي تتيحها، ومن خلال تعاون دولي أحيانا، يؤيد ذلك ما تنص عليه المادة 26 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (سان خوسيه في 22/11/1969) من أن الدول أطرافها تتعهد بأن تتخذ - داخليا ومن خلال التعاون الدولي - التدابير اللازمة وعلى الأخص الاقتصادية والتقنية منها، بقصد التوصل تدريجيا عن طريق السلطة التشريعية أو غيرها من الوسائل الملائمة إلى التحقيق الكامل للحقوق التي تتضمنها المعايير الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والثقافية التي يشتمل عليها ميثاق منظمة الدول الأمريكية معدلا ببرتوكول بيونس أيرس. وعملا بالفقرة الأولى من المادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (62/21/1966) تتعهد كل من الدول المعتبرة طرفا في هذا العهد - ومن بينها مصر - بأن تتخذ بمفردها وكذلك بالتعاون مع غيرها من الدول من الناحيتين الاقتصادية والتقنية، التدابير الملائمة - وعلى الأخص التشريعية منها - التي يقتضيها التحقيق الكامل للحقوق التي أقرها ذلك العهد، على أن يكون إيفاؤها متتابعا، وبأقصى ما تسمح به مواردها.

 

مبدأ المساواة

مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، لا يعني أن تعامل فئاتهم - على تباين مراكزهم القانونية - معاملة قانونية متكافئة، ولا معارضة صور التمييز على اختلافها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى علاقة منطقية بين النصوص القانونية التي تبناها المشرع لتنظيم موضوع معين، والنتائج التي رتبها عليها، ليكون التمييز بالتالي موافقا لأحكام الدستور التي ينافيها انفصال هذه النصوص عن أهدافها، وتوخيها مصالح ضيقة لا تجوز حمايتها.

 

ولاية المحكمة الدستورية

أن المسائل الدستورية التي يستنهض الفصل فيها ولاية المحكمة الدستورية العليا، هي تلك التي تثير تعارضا بين القواعد الآمرة التي يشتمل عليها الدستور، وما دونها من القواعد القانونية. ولا كذلك التعارض بين قاعدتين قانونيتين تتحدان في مرتبتيهما.

 

 

الدعوى رقم 34 لسنة 15 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 2 مارس سنة 1996م الموافق 12 شوال سنة 1416هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 34 لسنة 15 قضائية "دستورية".

 المقامة من

السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الشعب

3- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

4- السيد/ وزير الري

5- السيد/ محافظ الغربية

الإجراءات

بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1993 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية المادتين الثانية والسادسة عشرة من القانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، وذلك فيما تضمنته أولاهما من حظر صرف مياه الصرف الصحي في المصارف العمومية، وأخراهما من تأثيم لذلك الفعل جنائيا.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى. وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

وحيث إن الوقائع على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعي إلى المحاكمة الجنائية في الدعوى رقم 4492 لسنة 92 جنح مركز المحلة الكبرى، تأسيسا على أنه بتاريخ 16/11/1992 بقرية العامرية مركز المحلة الكبرى، قام بصرف المخلفات في المجاري المائية بدون ترخيص من الجهات المختصة، وطلبت النيابة العامة عقابه بمقتضى المواد 1، 2، 16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث. وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة جنح مركز المحلة الكبرى، دفع المدعي بجلسة 4/11/1993 بعدم دستورية المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد صرحت له بإقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة. ثم قضت بجلسة 6/1/1994 بوقف الدعوى تعليقاً لحين الفصل في الطعن بعدم دستورية المادتين 2، 16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 آنف البيان.

وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية التي تقام عن طريق الدفع الفرعي وفقا للبند ب من المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا، إنما يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذي أبداه خصم أمام محكمة الموضوع، وفي الحدود التي تقدر فيها جديته؛ وكانت المسائل الدستورية التي تقضي محكمة الموضوع بإحالتها مباشرة إلى المحكمة الدستورية العليا عملاً بالبند أ من المادة 29 من قانونها، لازمها أن تبين النصوص القانونية التي تقدر مخالفتها للدستور، ونطاق التعارض بينهما، وأن يكون قضاؤها هذا دالا على انعقاد إرادتها على أن تعرض - مباشرة - المسائل الدستورية التي ارتأتها على المحكمة الدستورية العليا استنهاضا لولايتها بالفصل فيها، لتحدد على ضوء قضائها القاعدة القانونية التي ينبغي تطبيقها في النزاع الموضوعي؛ وكان من المقرر كذلك أن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في النزاع الموضوعي وذلك يكون الحكم الصادر في المسائل الدستورية مؤثراً في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن هيمنتها على الخصومة الدستورية وتوجهيها لإجراءاتها، وبمراعاة ما قصده المدعي منها، يقتضيها أن تُدْخِل في نطاق المسائل الدستورية التي تدعى للفصل فيها، ما يكون من النصوص القانونية مرتبطا ارتباطا لازما بالنصوص المطعون عليها؛ وكان من المقرر أن كل اتهام بجريمة يعني أن مرتكبها قد أتى فعلا معاقبا عليه قانونا؛ وكانت جريمة إلقاء المخلفات في المجاري المائية التي نسبتها النيابة العامة إلى المدعي، تفترض تجريم المشرع لهذا الفعل من خلال العقوبة التي فرضها على من أتاه؛ وكان المدعي وإن دفع أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية مجرى النيل والمجاري المائية من التلوث، ثم قصر دعواه الدستورية على النعي على مادته الثانية وحدها مخالفتها للدستور، إلا أن نطاق الطعن أمام هذه المحكمة ينبغي أن يتحدد بالمادتين 2 و16 من هذا القانون باعتبارهما متضامتين، ذلك أن الأفعال التي حظرها المشرع بنص المادة الثانية من ذلك القانون، لم تنتقل إلى دائرة التجريم إلا بنص مادته السادسة عشرة.

وحيث إن التطور الإيجابي للتنمية، لا يتحقق بمجرد توافر الموارد الطبيعية على اختلافها، بل يتعين أن تقترن وفرتها بالاستثمار الأفضل لعناصرها. وإذا كان الماء أغلى هذه الموارد وأكثرها نفعا باعتباره نبض الحياة وقوامها، فلا يجوز أن يبدد إسرافا، فإن الحفاظ عليه قابلا للاستخدام في كل الأغراض التي يقبلها، يغدو واجبا وطنياً، وبوجه خاص في كبرى مصادره ممثلا في النيل والترع المنتشرة في مصر، ليس لإحياء الأرض وحدها أو إنمائها، بل ضمانا للحد الأدنى من الشروط الصحية للمواطنين جميعا، وارتكانا لوسائل علمية تؤمن للمياه نوعيتها، وتطرح الصور الجديدة لاستخداماتها لتعم فائدتها. وإذا كان تراكم الثروة يقتضي جهدا وعقلا واعيا، فإن صون الموارد المائية من ملوثاتها، يعتبر مفترضا أوليا لكل عمل يتوخى التنمية الأشمل والأعمق. بيد أن اتجاها لتلويثها بدا أول الأمر محدودا، ثم تزايد حدة بمرور الزمن، وصار بالتالي محفوفا بمخاطر لا يستهان بها تنال من المصالح الحيوية لأجيال متعاقبة بتهديدها لأهم مصادر وجودها، وعلى الأخص مع تراجع الوعي القومي، وإيثار بعض الأفراد لمصالحهم وتقديمها على ما سواها. وقد كان للصناعة كذلك مخرجاتها من المواد العضوية الضارة التي تتعاظم تركيزاتها أحيانا ليكون تسربها إلى المياه وكائناتها الحية، هادما لخصائصها، وكان لغيرها من الأماكن مخلفاتها أيضا السائلة منها والصلبة والغازية التي تزايد حجمها وخطرها تبعا لتطور العمران تطوراً كبيراً ومفاجئاً، بل وعشوائياً في معظم الأحيان. واقترن ذلك بإهمال التقيد بالضوابط والمعايير التي تجعل صرفها في تلك الموارد المائية على اختلافها مأمونا أو على الأقل محدود الأثر، وكذلك بقصور التدابير اللازمة لرصد مصادر تلوثها والسيطرة عليها أو بمكافحتها بعد وقوعها.

وحيث إن الحق في التنمية - وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية - وثيق الصلة بالحق في الحياة، وكذلك بالحق في بناء قاعدة اقتصادية تتوافر أسبابها، وعلى الأخص من خلال اعتماد الدول - كل منها في نطاقها الإقليمي - على مواردها الطبيعية ليكون الانتفاع بها حقا مقصورا على أصحابها. وقد أكد الإعلان الصادر في 4/12/1986 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شأن التنمية 128/41 أهميتها بوصفها من الحقوق الإنسانية التي لا يجوز النزول عنها، وأن كل فرد ينبغي أن يكون مشاركا إيجابيا فيها، باعتباره محورها، وإليه يرتد عائدها، وأن مسئولية الدول في شأنها مسئولية أولية تقتضيها أن تتعاون مع بعضها البعض من أجل ضمانها وإنهاء معوقاتها، وأن تتخذ التدابير الوطنية والدولية التي تيسر الطريق إلى التنمية بما يكفل الأوضاع الأفضل للنهوض الكامل بمتطلباتها، وعليها أن تعمل - في هذا الإطار - على أن تقيم نظاماً اقتصاديا دوليا جديداً يؤسس على تكافؤ الدول في سيادتها وتداخل علائقها وتبادل مصالحها وتعاونها. وهذه التنمية هي التي قرر المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا خلال الفترة من 14 إلى 25 يونيو 1993 ارتباطها بالديموقراطية، وبصون حقوق الإنسان واحترامها، وأنها جميعا تتبادل التأثير فيما بينها، ذلك أن الديموقراطية أساسها الإرادة الحرة التي تعبر الأمم من خلالها عن خياراتها لنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإسهامها المتكامل في مظاهر حياتها على اختلافها. كذلك فإن استيفاء التنمية لمتطلباتها - وباعتبارها جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان لا يقبل تعديلا أو تحويلا - ينبغي أن يكون إنصافا لكل الأجيال، لتقابل احتياجاتها البيئية والتنموية، وعلى تقدير أن الحق في الحياة، وكذلك صحة كل إنسان، يتعرضان لأفدح المخاطر من جراء قيام البعض بالإغراق غير المشروع لمواد سمية أو لجواهر خطرة، أو لفضلاتهم ونفاياتهم ومن ثم يدعو المؤتمر الدول جميعها لأن تتعاون فيما بينها من أجل مجابهة هذا الإغراق غير المشروع، وأن تقبل التقيد بكل معاهدة دولية معمول بها في هذا المجال، وتنفيذها تنفيذاً صارما.

 وحيث إن خصائص التنمية - بكل معطياتها وأدواتها وعناصرها من الموارد البشرية - هي التي أدركها المشرع بالقانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية مجرى النيل والمجاري المائية من التلوث، وهي كذلك التي رعتها لائحته التنفيذية التي صدر بها القرار رقم 8 لسنة 1983، وتعديلاتها، ذلك أن المشرع توخي بنص المادة الثانية من القانون، تقرير مبدأ عام مؤداه حظر إلقاء المخلفات الصلبة، أو الغازية، أو السائلة، أو صرفها في مجارى المياه على كامل أطوالها ويندرج تحتها مسطحاتها من المياه العذبة كنهر النيل وفرعيه والأخوار والترع بكل أنواعها والخزانات الجوفية على امتداد جمهورية مصر العربية، وكذلك مسطحاتها غير العذبة كبحيراتها وبركها ومصارفها بجميع درجاتها. وسواء كانت هذه المخلفات قد تأتت من عقار، أو من أحد المحال التجارية، أو الصناعية، أو السياحية، أو من عمليات الصرف الصحي، أو غيرها، فلا استثناء من حظر إلقائها أو صرفها في مجارى المياه، إلا أن يكون ذلك بناء على ترخيص يصدر في الأحوال، ووفق الضوابط والمعايير التي يحددها وزير الري بناء على اقتراح وزير الصحة. وينبغي دوما أن يكون الترخيص متضمنا تحديدا للمعايير والمواصفات الخاصة بكل حالة على حدة.

 وحيث إن المشرع - وضمانا لردع المسئولين عن الإخلال بالحظر المنصوص عليه في المادة الثانية من هذا القانون - نص في مادته السادسة عشرة على ما يأتي [مع عدم الإخلال بالأحكام المقررة بقانون العقوبات، يعاقب على مخالفة أحكام المواد 2 و3 فقرة أخيرة و4 و5 و7 من هذا القانون والقرارات المنفذة لها، بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد عن ألفي جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين..].

 وحيث إن ما ينعاه المدعي من إخلال المادة 2 المطعون عليها بمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادة 8 من الدستور مردود، بأن مضمون هذا المبدأ يتصل بالفرص التي تتعهد الدولة بتقديمها، وأن إعماله يقع عند التزاحم عليها، وأن الحماية الدستورية لتلك الفرص غايتها تقرير أولوية - في مجال الانتفاع بها - يتقدم من خلالها بعض المتزاحمين على بعض وفق أسس موضوعية تتحدد بها ضوابط هذا التقدم على ضوء متطلباتها من المصلحة العامة، فلا تتقرر انحيازا أو التواء، بل تبصرا واعتدالا. متى كان ذلك، وكان إعمال النص المطعون فيه لا يتصل بفرض قائمة يجرى التزاحم عليها، فإن النعي عليه بمخالفته المادة 8 من الدستور، يغدو مفتقراً لسنده.

وحيث إن المدعي ينعى على المادة 2 المطعون عليها، إهدارها حكم المادة 16 من الدستور التي تتعهد الدولة بموجبها بأن تقدم لمواطنيها خدماتها الصحية والاجتماعية والثقافية، وأن تيسرها على الأخص وتكفل انتظامها لقراها رفعا لمستواها، وكان عليها قبل أن تؤاخذهم على إلقائهم لمخلفاتهم في مجاريها المائية أن توفر بديلا عنها ممثلا في خدماتها للصرف الصحي التي هيأتها للمدن مجانا ودون قيد أو شرط، مع حرمان قراها منها، مما يخل بمساواة المواطنين أمام القانون التي كفلتها المادة 40 من الدستور.

 وحيث إن هذا النعي مردود أولا: بأن تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية وفقا لنص المادة 16 من الدستور، يقتضيها تدخلا إيجابيا من خلال الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها، ليكون إشباعها لخدماتها هذه، متدرجا وواقعا في حدود إمكاناتها، خلافا لموقفها من الحقوق الفردية السلبية - كالحق في الحياة وفي الحرية - التي يكفيها لصونها مجرد الامتناع عن التدخل في نطاقها بما يقيد أو يعطل أصل الحق فيها. ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية، لا يمكن فصلها عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سواء في مجال توجهاتها أو بالنظر إلى عموم تطبيقها فيما بين الدول، وأن النوع الأول من الحقوق يعتبر مدخلا لثانيهما، وشرطا أوليا لتحقيق وجوده عملا، إلا أن الفوارق بين هذين النوعين من الحقوق، تكمن في أصل نشأتها وعلى ضوء مراميها، ذلك أنه بينما تعتبر الحقوق المدنية والسياسية من الحقوق التي تمليها آدمية الإنسان وجوهره - إلى حد وصفها بخصائص بني البشر أو بالحقوق الطبيعية الأسبق وجودا على الجماعة التي ارتبط بها، فلا تتكامل شخصيته بدونها، ولا يوجد سويا في غيبتها، ولا يحيا إلا بالقيم التي ترددها، ليملك بها إرادة الاختيار مشكلا طرائق للحياة يرتضيها؛ فإن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان، توخي دوما تطوير أوضاع البيئة التي تواجد فيها مستظلاً بها، ليعيد تكوين بنيانها، مستمدا رخاءه من الآفاق الجديدة التي تقتحمها، وهي بحكم طبيعتها هذه، تتصل حلقاتها عبر الزمن، وعلى امتداد مراحل لا تفرضها الأهواء، بل تقررها الدول على ضوء أولوياتها، وبمراعاة مواردها القومية، وبقدرها. ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية تمهد في الأعم الطريق إلى بناء الهياكل الرئيسية للتنمية وفق الإرادة الحرة، إلا أن الحقوق الاجتماعية والثقافية والصحية تناهض الفقر والجوع والمرض بوجه خاص، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها، ضمانها لكل الناس في آن واحد، بل يكون تحقيقها في بلد ما، مرتبطا بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق بالتالي نفاذا فوريا، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمنا وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعا لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابيا لصونها متتابعا، واقعا في أجزاء من إقليمها، منصرفا لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعا، ذلك أن مسئوليتها عنها، مناطها إمكاناتها، وفي الحدود التي تتيحها، ومن خلال تعاون دولي أحيانا، يؤيد ذلك ما تنص عليه المادة 26 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (سان خوسيه في 22/11/1969) من أن الدول أطرافها تتعهد بأن تتخذ - داخليا ومن خلال التعاون الدولي - التدابير اللازمة وعلى الأخص الاقتصادية والتقنية منها، بقصد التوصل تدريجيا عن طريق السلطة التشريعية أو غيرها من الوسائل الملائمة إلى التحقيق الكامل للحقوق التي تتضمنها المعايير الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والثقافية التي يشتمل عليها ميثاق منظمة الدول الأمريكية معدلا ببرتوكول بيونس أيرس. وعملا بالفقرة الأولى من المادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (62/21/1966) تتعهد كل من الدول المعتبرة طرفا في هذا العهد - ومن بينها مصر - بأن تتخذ بمفردها وكذلك بالتعاون مع غيرها من الدول من الناحيتين الاقتصادية والتقنية، التدابير الملائمة - وعلى الأخص التشريعية منها - التي يقتضيها التحقيق الكامل للحقوق التي أقرها ذلك العهد، على أن يكون إيفاؤها متتابعا، وبأقصى ما تسمح به مواردها. ومردود ثانيا: بأن حظر إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية في مجارى المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها ليس مطلقا، بل يجوز الاستثناء منه في أحوال بذاتها يقدرها الوزير المختص، ووفق ترخيص لا يصدر إلا بعد معالجتها، توقيا لأضرارها وبما يكفل لكل حالة على حدة، التقيد بالمعايير والضوابط التي يتطلبها القانون، فإذا تبين عند تحليلها - وبعد معالجتها - أنها لا تزال تؤثر في نوعية المياه وصلاحية استخدامها لكل الأغراض، وأن جهدا لم يبذل لضمان التقيد بالمعايير والضوابط اللازمة لصرفها، حق للجهة الإدارية المختصة إلغاء الترخيص. ومن ثم يكون صدور الترخيص واستمراره، مرتبطا بأحوال بذاتها تمثل ظرفا قاهراً تقدر فيه الضرورة بقدرها، ووفق شروط وأوضاع لا يجوز التحلل منها، فلا تكون المجاري المائية نهبا لمعتدين يلوثونها بمخلفاتهم دون عائق، بل يكون صرفها فيها محددا بمقاييس صارمة زمامها بيد الجهة الإدارية، وهو ما يعني أن الترخيص الصادر عنها، يعتبر بديلا مؤقتا عن مرافق الصرف الصحي عند تخلفها، وإلى أن يتم إحداثها. ومردود ثالثا: بأن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، لا يعني أن تعامل فئاتهم - على تباين مراكزهم القانونية - معاملة قانونية متكافئة، ولا معارضة صور التمييز على اختلافها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى علاقة منطقية بين النصوص القانونية التي تبناها المشرع لتنظيم موضوع معين، والنتائج التي رتبها عليها، ليكون التمييز بالتالي موافقا لأحكام الدستور التي ينافيها انفصال هذه النصوص عن أهدافها، وتوخيها مصالح ضيقة لا تجوز حمايتها؛ وكان الحظر المقرر بنص المادة 2 المطعون عليها، لا يتعلق ببعض المواطنين دون بعض، ولا بمن يكون منهم مقيما في جهة بذاتها بجمهورية مصر العربية، بل ينطبق على مدنها وقراها جميعا، وترتيبا على واقعة بذاتها هي إلقاؤهم لمخلفاتهم أو صرفها في الموارد المائية؛ ومقررا بمقتضى قاعدة قانونية عامة مجردة لا تقيم في مجال سريانها تمييزا بين المخاطبين بها، بل تنتظمهم جميعا أحكامها التي ربطها المشرع بمصلحة عامة تتمثل في صون الأوضاع الأفضل لبيئتهم، فإن النعي عليه مخالفة المادة 40 من الدستور يكون منتحلا.

وحيث إن المدعي ينعى على المادتين 2 و16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، تأثيمهما أفعالا بذواتها استقرت بها قبل التجريم مراكز قانونية لا تجوز تعديلها أو الإخلال بها، ليتمثل انعطافا على الماضي على خلاف نص المادة 187 من الدستور التي لا تجيز رجعية القوانين الجنائية، وتحتم سريانها بأثر مباشر. وحيث إن هذا النعي مردود، بأن الأفعال التي حظرها المشرع واعتبارا من تاريخ نفاذ القانون رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه هي إلقاء المخاطبين بأحكامه لمخلفاتهم في المجاري المائية التي حددتها حصراً المادة الأولى من هذا القانون. وإذ كان المشرع قد جرم بنص مادته السادسة عشرة الأفعال المنافية لهذا الحظر، وكان ارتكابها يمكن أن يكون متكررا غير مقصور على لحظة زمنية بذاتها، فإن ما تم منها مشتملا على عناصرها جميعا قبل نفاذ ذلك القانون، وظل مستمرا بعده، يعتبر جريمة معاقباً عليها وفقا لأحكامه.

وحيث إن ما ينعاه المدعي من أن قانون الري والصرف الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 1984، قد ألغى الأحكام التي تضمنها القانون رقم 48 لسنة 1982 في شأن حماية نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، مردود أولا: بأن لكل من هذين القانونين مجالا يعمل فيه، ولا يتصور أن يتعارضا، ذلك أنه بينما يتوخى أولهما تطوير نظم الري والصرف ورفع كفاءتها لضمان الانتفاع الأمثل بمصادر المياه وتوفير أكبر قدر ممكن منها بقصد زيادة الإنتاج الزراعي الذي يحتل مكان الصدارة من الثروة القومية للبلاد؛ فان ثانيهما يتغيا صون نهر النيل وغيره من المجاري المائية التي حددها مما يلوثها. ومردود ثانيا بأن المسائل الدستورية التي يستنهض الفصل فيها ولاية المحكمة الدستورية العليا، هي تلك التي تثير تعارضا بين القواعد الآمرة التي يشتمل عليها الدستور، وما دونها من القواعد القانونية. ولا كذلك التعارض بين قاعدتين قانونيتين تتحدان في مرتبتيهما.

 وحيث إن نص المادتين 2، 16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 آنف البيان - وفي الحدود التي بسطناها - لا يخالف أحكام الدستور من أوجه آخري.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية