المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 2 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

وحدة وتكامل نصوص الدستور

حيث إن الأصل في النصوص الدستورية، أنها تفسر بافتراض تكاملها باعتبار أن كلا منها لا ينعزل عن غيره، وإنما تجمعها تلك الوحدة العضوية التي تستخلص منها مراميها، ويتعين بالتالي التوفيق بينها، بما يزيل شبهة تعارضها ويكفل اتصال معانيها وتضاممها، وترابط توجهاتها وتساندها، ليكون ادعاء تماحيها لغوا، والقول بتآكلها بهتانا؛ وكان مضمون الحقوق السياسية التي يثيرها النزاع الراهن، إنما يتحدد على ضوء اتصال هذه الحقوق بمبدأ تكافؤ الفرص، وبإعمال مبدأ المساواة أمام القانون، ودون إخلال بالمقومات الأساسية للمجتمع التي تعمل الأحزاب في نطاقها، والتي نظمها الباب الثالث من الدستور، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالتضامن الاجتماعي؛ متى كان ذلك، فإن أحكام المواد 7، 8، 04، 62 من الدستور، يتعين النظر إليها في مجموعها باعتبارها وحدة يقتضيها الفصل في النزاع الماثل.

 

حرية التعبير والاجتماع

حيث إن ضمان الدستور - بنص المادة 7 4 - لحرية التعبير عن الآراء، والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول، أو بالتصوير، أو بطباعتها، أو بتدوينها، وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها. وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة. وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً.

وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 47 من الدستور، أبلغ ما تكون أثرا في مجال اتصالها بالشئون العامة وعرض أوضاعها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير، أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقا دون تدفقها كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 47 من الدستور، لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، بل كذلك اختيار الوسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها، ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكليا أو سلبيا، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولا بتبعاتها، وألا يفرض أحد على غيره صمتا، ولو بقوة القانون.

وحيث إن حرية التعبير التي كفلها الدستور على ما تقدم، هي القاعدة في كل تنظيم ديموقراطي، لا يقوم إلا بها، ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكارا لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.

وحيث إن حرية التعبير - في مضمونها الحق - تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم، وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض، بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها لبعض، ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكال الاجتماع. ذلك أن الانعزال عن الآخرين يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها، ولو كان أفقها ضيقا أو كان عقمها أو تحزبها باديا.

بل إن حرية القول والصحافة والعقيدة وتقديم العرائض للحصول من المسئولين على الترضية التي يقتضيها رد عدوان قائم أو محتمل، لا يمكن ضمانها ضماناً كافيا، إلا من خلال شكل من أشكال الاجتماع، تتكتل فيه الجهود للدفاع عن مصالح بذاوتها، يكون صونها لازما لإثراء ملامح من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يكفل تنوع مظاهرها واتساع آفاقها، واستخلاص اتجاه عام من خلال تعدد الآراء التي تطرح على مسرحها.

 

حق الاقتراع

حيث إن الدستور كفل لكل مواطن حق الاقتراع، وفقا للشروط التي يحددها المشرع ولا ينال محتواه، وكانت الحماية التي كفلها الدستور للمواطنين، وأحاط بها هذا الحق، لا تقتصر على مجرد تمكينهم من الإدلاء سراً بأصواتهم في صناديق الاقتراع إذا كانوا مؤهلين قانونا لمباشرة هذا الحق، ولكنها تمتد لتفرض التزاما قانونيا بفرز أصواتهم هذه، والاعتداد بما يكون منها صحيحا ؛ وكان إهدار حقهم في الاختيار لا يتخذ شكلا واحداً، وإنما يقع بوسائل متعددة، من بينها إنكار حقهم في الاقتراع ابتداءً، وكذلك إبدال أصواتهم وتزييفها، وتكديس صناديق الاقتراع بغيرها، ذلك أن نظاما ديمقراطيا للحكم، يفترض أن يكون حق الاقتراع منضبطا وفق قواعد محددة يكون إعمالها منصفا وفعالا، فلا يباشره المواطنون مثقلا بقيود تؤثر في وزن أصواتهم لتضعفها، أو تفرقها، كتلك التي تمايز بين المواطنين تبعا لأصلهم، أو مكان توطنهم، بل يتعين دوما أن يكون هذا الحق متكافئا نطاقا، وهو ما يظهر على الأخص في الدوائر الانتخابية التي تتماثل فيما بينها في عدد سكانها، إذ ينبغي - وكلما كان ذلك ممكنا عملا - أن يكون ممثلوها متكافئين عدداً.

 

ترابط حق المرشحين والناخبين

من المقرر كذلك، أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور والقانون صفتها التمثيلية، لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم، ذلك أن هذين الحقين مرتبطان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما. ولا يجوز بالتالي أن تفرض على مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها أو بما يكون كافلا إنصافها، وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها، بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها، بما يصون حيدتها، ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين فيها.

ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية، إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من المواطنين - ودون أسس موضوعية - من فرص الترشيح لعضوية تلك المجالس أو تقييدها، ذلك أن أثرها هو إبعاد هؤلاء نهائيا عن العملية الانتخابية بأكملها، وحجبهم بالتالي عن الإسهام فيها، بما مؤداه احتكار غرمائهم لها، وسيطرتهم عليها دون منازع، وإنهاء حق المبعدين عنها في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجهاتهم، وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين، وبوجه خاص كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم بل إن القيم العليا لحرية التعبير - بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها - ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلا ومفتوحا، بل مقصورا على فئة بذاتها من المواطنين، أو متعاظما بمركزهم بناء على صفتهم الحزبية، أو منحصرا في مسائل بذواتها لا يتعداها.

كذلك فإن حق الناخبين في الاجتماع مؤداه ألا تكون الحملة الانتخابية - التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم،وإطارا يحددون من خلالها أولوياتهم - محدودة آفاقها على نحو يقلص من الفرص التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين، وانتقاء من يكون من بينهم شريكا معهم في أهدافهم قادرا على النضال من أجل تحقيقها ولا يجوز من جهة أخرى التذرع بتنظيم العملية الانتخابية سواء من حيث زمانها، أو مكان إجرائها، أو كيفية مباشرتها للإخلال بالحقوق التي ربطها الدستور بها بما يعطل جوهرها، ولا لتأمين مصالح جانبية محدودة أهميتها، ولا التدخل بالقيود التي يفرضها المشرع عليها للحد من حرية التعبير - وهي قاعدة التنظيم الانتخابي ومحوره - ذلك أن تنظيم العملية الانتخابية لا يكون ممكنا إلا إذا كان معقولاً، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان محايداً في محتواه - بما يوفر لهيئة الناخبين الحقائق التي تُعِينها على تحديد موقفها من المرشحين الذين يريدون الظفر بثقتها، من خلال تعريفها بأحقهم في الدفاع عن مطالبها، بمراعاة ملكاتهم وقدراتهم، ولتكون مفاضلتها بينهم على أسس موضوعية لها ما يظاهرها، ووفق قناعتها بموقفهم من قضاياها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين ألا يحال بين المرشحين والفرص التي يقتضيها نشر الأفكار والآراء التي يؤمنون بها، ونقلها إلى هيئة الناخبين التي لا يجوز فرض الوصاية عليها، ولا تعريضها لتأثير يؤول إلى تفككها أو اضطرابها، أو بعثرة تكتلاتها، ولا أن تعاق قنواتها إلى الحقائق التي تريد النفاذ إليها، ذلك أن اتساع قاعدة الاختيار فيما بين المرشحين، ضمانة أساسية توفر لهيئة الناخبين ظروفا أفضل، تمنح من خلالها ثقتها لعناصر من بينهم تكون - في تقديرها - أجدر بالدفاع عن مصالحها. فإذا ما حد المشرع من قاعدة الاختيار هذه، وضيق من دائرتها، فقد حق الاقتراع مغزاه.

 

جمود وانغلاق صيغة التنظيم السياسي الواحد ومجافاتها للديمقراطية

حيث إن الاتحاد الاشتراكي العربي - وعلى ما كانت تنص عليه المادة 5 من الدستور، اعتبر تنظيما سياسيا، يقوم على أساس مبدأ الديموقراطية، كافلا تحالفا بين الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية، ليكون أداتهم في تعميق القيم الديموقراطية، ومتابعة العمل الوطني في مختلف مجالاته. وقد أصبحت تنص بعد تعديلها في 22 مايو 1980، على أن يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور.

 وحيث إن مؤدى نص المادة 5 المشار إليها - بعد تعديلها - أن الدستور توخي العدول عن التنظيم الشعبي الوحيد ممثلا في الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان مهيمنا وحده على العمل الوطني، مسيطرا على مجالاته المختلفة، لينصهر المواطنون جميعهم في إطار توجهاته لا يفارقونها، فلا يملكون لها تبديلا، بل يحملون عليها حملا، وينقلبون بها - وعلى تباين اهتماماتهم - نمطا واحدا، فلا يتدبرون شئونهم، أو يديرون حولها حواراً جاداً، وهو ما يناقض ديموقراطية العمل الوطني، ويخل بمفهومها المتجانس مع طبيعتها، ويحيلها لغوا وكان على واضعي الدستور، في نطاق التزامهم الأصيل بالعدول عن الأوضاع التي جاوزها الزمن، أو تخطاها التطور، أو قيدتها النظم المعاصرة - في أشكالها الأكثر تقدما - إهدار صيغة الاتحاد الاشتراكي العربي لجمودها وانغلاقها، ومجافاة مضمونها لحرية الخلق والإبداع، وهدمها لشخصية المواطن وتكامل عناصرها. ولم يكن أمامهم من خيار إلا اعتناق التعددية الحزبية بديلا عنها، بوصفها إطارا إيجابيا للحياة السياسية على تباين مستوياتها، فلا تتلون بلون واحد، ولا تكون الإرادة الواحدة - من أعلى - محورا لها، بل يكون مناخها تبادلا حرا غير معاق للآراء على اختلافها، وإثراء لها في دائرة أعرض، ليكون تلاقيها، منبئا عن الحقائق التي تتصل بها.

 

مضمون التعددية الحزبية

أن التعددية الحزبية تحمل في أعطافها تنظيما يطرح عديدا من الآراء، مبلورا تعارضها، أو توافقها، تنافرها، أو تلاؤمها، مرجحا بعضها على ما عداها على ضوء تقييمها في إطار من المصالح القومية بوصفها ضابطا يحد من جموحها أو انفلاتها ولم تكن التعددية الحزبية بالتالي صيغة اعتنقها الدستور لإبدال سيطرة تنظيم معين بغيره، ولا تغليبا للتحكم، بل قصد بضمانها أن تكون أسلوبا قويما للعمل الوطني من خلال ديموقراطية الحوار - وما يتصل بها من سلطة التقرير - إنهاء لهيمنة الأقلية أيا كان وزنها الاجتماعي، كي لا تضل بأهوائها، أو تقبع في ظلماتها.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الدستور اتخذ من التعددية الحزبية طريقا فاعلاً - لا وحيداً - لتعميق المفهوم الديموقراطى لنظام الحكم، مؤكداً بذلك أن الديموقراطية لا يجوز أن تكون إجماعا زائفاً أو تصالحاً مرحلياً أو عملا لتهدئة الخواطر، وأنها - في مضمونها ومرماها - اعتصام بالإرادة الشعبية ليكون النزول عليها حقاً، وواجباً. وهي باعتبارها كذلك ينافيها تقرير أفضلية لبعض المواطنين على بعض في شأن الحقوق التي يمارسونها، أو التمييز بينهم في ذلك لاعتبار يتعلق بانتماءاتهم السياسية، أو ارتكاناً على آرائهم أو ميولهم، أو عصبيتهم. وينقضها كذلك، ألا يكون التزاحم على مقاعد المجالس ذات الصفة التمثيلية، حقاً لكل مواطن في الحدود التي يقتضيها تنظيم هذا الحق، وبما يوفر لأيهم الفرص ذاتها التي يؤثر من خلالها - متكافئاً في ذلك مع غيره من المواطنين - في تشكيل إطار للمصالح القومية، وطرائق تحقيقها وتلك هي الإرادة الشعبية التي تعبر في صورها الأكثر شيوعاً، عن وجودها، من خلال اختيارها الحر لممثليها في تلك المجالس، وعن طريق وزن أصواتها التي تحدد من يظفرون بثقتها ولا يتصور بالتالي أن تكون الحقوق السياسية التي كفلها الدستور بنص المادة 26 - وقوامها حقاً الاقتراع والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء - وقفاً على الحزبيين يديرون زمامها، ويملكون ناصيتها، منفردين بتبعاتها، وإلا صار أمر التعددية الحزبية تغليباً لفئة من المواطنين تدين بالولاء لأحزابها، وتشويها للحياة السياسية التي قصد الدستور إلى إنمائها بعد عِقَمها، وإقصاء لغير الحزبيين عن الإسهام فيها، وإهدارا لحقهم - كبر عددهم أو قل - في الدفاع عن مبادئهم، وأن يكون موقعهم من هيئة الناخبين، وإمكان تأثيرهم فيها، للحصول على ثقتها بمرشحيهم، مساوٍ لغيرهم.

وحيث إنه متى كان ذلك، تعين ألا يكون الانتماء الحزبي طريقاً لا بديل عنه للفوز بعضوية المجالس التي يكون الحوار والنقاش قاعدة للعمل فيها.

 

إطلاق حق المواطنين المؤهلين لمباشرة الحقوق السياسية في الترشح والاقتراع

من غير المفهوم كذلك أن يطلق المشرع حق الاقتراع للمواطنين المؤهلين لمباشرة حقوقهم السياسية، وأن يتخذ موقفا مختلفا من ترشيحهم لعضوية تلك المجالس، ذلك أن هذين الحقين متكاملان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما، وبوجه خاص من خلال القيود التي يفرضها المشرع على أيهما وما كان الدستور ليرد إلى الصورة الحزبية، مواطنين يأبونها، ليصبغهم بها، فلا يلجون الطريق إليها طوعاً، وهو ما يناقض حق الاجتماع المنصوص عليه في المادة 54 من الدستور، ذلك أن الأصل في أشكال التجمع على اختلافها - والتنظيم الحزبي من صورها - أن تكون الإرادة مدارها، سواءً عند الانضمام إليها، أو الخروج منها.

وحيث إن ما تقدم يؤيده، أن الأصل في العمل الوطني، أن يكون جماعياً يقوم على تضافر الجهود وتعاونها، فلا يمتاز بعض المواطنين على بعض في إدارة الشئون القومية أو تصريفها، بل تنعقد السيادة لجموعهم يباشرونها على الوجه المبين في الدستور على ما تقضى به مادته الثالثة، بما يتفرع عن هذه السيادة من نتائج، من بينها عدم جواز تجزئتها، وتواصل أمتهم وتضامن أجيالها، وغلبة مصالحها العليا ودوامها، وقيام نظام الحكم فيها على أساس تمثيلي.

 وإذ يتزاحم المواطنون على مقاعد المجالس الشعبية، فإن انتماءاتهم الحزبية لا تقدمهم على غيرهم، ولا تمنحهم أفضلية أياً كان نوعها، بل يكون نصيبهم من الإسهام في الحياة السياسية، عائداً إلى هيئة الناخبين، ومحدداً على ضوء مقاييسها، ذلك أن هذه الهيئة، هي التي تفرض من خلال أصواتها - وبعيداً عن أشكال الانتماء أياً كان لونها - من يفوز بثقتها، وآية ذلك ما يأتي:

أولا: أن صور التمييز بين المواطنين التي قصد الدستور إلى منعها بنص المادة 40، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وعلى رأسها - وفي مركز الصدارة منها - حقاً الاقتراع والترشيح باعتبارهما محور السيادة الشعبية وقاعدة بنيانها - فلا يجوز إنكار أصل وجودها أو تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً لممارستها أو الانتفاع بها ولازم ذلك أمران:

أولهما: ألا يكون الانتماء الحزبي شرطاً لانتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية، إذ يعتبر هذا الشرط مقحماً على تكوينها، مجافياً لأهدافها، مطلقاً يد الحزبيين، لتكون لأحزابهم كل الحقوق التي تهيمن بها على مسرح الحياة السياسية، فلا تنفلت منها أو ينازعها فيها خصيم؛ متحيفاً على مواطنين آخرين لا يختلفون عن الأولين إلا في الاستقلال عن تحزبهم، ولكنهم لا يصيبون من تلك الحقوق شيئاً، ولا يتولون قدراً من مسئوليتها، بل يكون نصيبهم منها عدماً أو فتاتاً.

ثانيهما: ألا يتخذ المشرع من تنظيم الحقوق السياسية، مدخلاً لتقرير مزايا للحزبيين تربو بها فرصهم في الفوز بمقاعد المجالس الشعبية المحلية على من عداهم، ذلك أن تنظيم الحقوق جميعها وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في الحدود التي يقتضيها الصالح العام، إلا أن سلطته هذه لا يجوز أن تنال من تلك الحقوق بما يقلص من محتواها، أو يجردها من خصائصها أو يقيد من آثارها، وإلا كان هذا التنظيم مخالفاً للدستور.

ثانياً: أن ما نص عليه الدستور في المادة 7، من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها، ومزاوجتها ببعض عند تعارضها، واتصال أفرادها وترابطهم بما يرعى القيم التي تؤمن بها، ليكون بعضهم لبعض ظهيراً فلا يتفرقون بدداً. وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتقدم فريق منهم على غيره في الحقوق التي يباشرها، ولا ينال قدراً منها يكون بها أكثر امتياز من سواه، بل يتمتعون جميعهم - وبغض النظر عن آرائهم ما كان منها سياسياً أو رمزياً أو متخذاً غير ذلك من الأشكال - بالحقوق عينها - التي تتكافأ مراكزهم القانونية قبلها، وبالوسائل ذاتها التي تعينهم على ممارستها. ولا يجوز بالتالي - وفي نطاق المجالس الشعبية المحلية - أن يقبض المشرع يده عن نفر من المواطنين ليكون صوتهم فيها خافتاً، وموقفهم متراجعاً، وأن يبسطها على غيرهم لتكون أكثر تمثيلاً لمصالحهم، وأحفل بشئونهم. ثالثا: إن حق تكوين الأحزاب السياسية، واختيار قياداتها، وإدارة الحوار الحر حول برامجها، وإصدار قراراتها وفق أسس ديمقراطية، فضلاً عن تمويلها تمويلاً ذاتياً، ليعمل المنضمون إليها على تأييد أهدافها والوفاء بتطلعاتها، كان قد تقرر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 الصادر قبل إلغاء الاتحاد الاشتراكي بمقتضى المادة 5 من الدستور بعد تعديلها. وقد أبان هذا القانون - وعلى ما جاء بمذكرته الإيضاحية وتقرير اللجنة التشريعية - أن الحق في تشكيلها يرتد إلى عدد من الحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور، من بينها الحق في الاجتماع، وحرية المواطنين في التعبير عن آرائهم وعقائدهم السياسية، ومباشرة أحزابهم لسلطة التقرير من خلال إسهام أعضائها في الاقتراع والترشيح والاستفتاء، وهو ما يعني أن التعددية الحزبية لا يمكن أن تكون قيدا على تعدد الآراء واختلافها، ولا أن تنقلب عليها بعد تفرعها عنها، وإلا كان وجودها عبثاً.

 

عدم بطلان القرارات والإجراءات الصادرة عن مجالس انتخبت على نحو غير دستوري

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت انتخابات المجالس الشعبية المحلية قد أجريت بناء على نصوص تشريعية ثبت عدم دستوريتها بما انتهت إليه هذه المحكمة من قضاء في الدعوى الماثلة، وكان استصحاب الطبيعة الكاشفة لأحكامها، وعملا بأثرها الرجعي، مؤداه أن يكون تكوين هذه المجالس باطلاً منذ انتخابها، إلا أن هذا البطلان لا يستتبع إسقاط ما اتخذته هذه المجالس من قرارات أو إجراءات منذ إنشائها وحتى تاريخ نشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية، بل تظل هذه القرارات والإجراءات وكذلك تصرفاتها الأخرى قائمة على أصلها من الصحة، وتبقى صحيحة ونافذة وذلك ما لم يتقرر إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة دستوريا، أو يقضى بعدم دستورية أحكامها من المحكمة الدستورية العليا، إن كان لذلك ثمة وجه أخر غير ما بني عليه هذا الحكم.

 

 

الدعوى رقم 2 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 3 فبراير سنة 1996م الموافق 14 رمضان سنة 1416هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وعدلي محمود منصور.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 2 لسنة 16 قضائية "دستورية" بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة "دائرة منازعات الأفراد والهيئات" ملف الدعوى رقم 8821 لسنة 46 ق.

المقامة من

1- السيد/ ...

2- السيد/ ...

3- السيد/ ...

4- السيد/ ...

5- السيد/ ...

6- السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ وزير الإدارة المحلية

3- السيد/ وزير الداخلية

الإجراءات

بتاريخ 7 فبراير سنة 1994 ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 8821 لسنة 46 ق، بعد أن قضت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة، "دائرة منازعات الأفراد والهيئات" في 20 أكتوبر سنة 1992 بوقف الفصل في طلب الإلغاء، وإحالة الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المادة 75 مكررا من قانون نظام الإدارة المحلية الصادر بالقرار بقانون رقم 43 لسنة 1979.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم أصليا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيا برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من قرار الإحالة وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعين، كانوا قد أقاموا الدعوى رقم 8821 لسنة 46 ق أمام محكمة القضاء الإداري بالقاهرة - دائرة منازعات الأفراد والهيئات - طالبين الحكم بوقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 337 لسنة 1992 فيما نص عليه من دعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية يوم الثالث من نوفمبر 1992، ووقف تنفيذ وإلغاء قرار وزير الداخلية رقم 5206 سنة 1992 بشأن ما قررته المادة 76 من قانون نظام الإدارة المحلية الصادر بالقرار بقانون رقم 43 لسنة 1979، من أن يرفق المرشح مع طلب الترشيح صورة من قائمة الحزب الذي ينتمي إليه، مثبتا بها إدراج اسمه فيها. وقد استند المدعون في ذلك، إلى مخالفة المادة 75 مكرراً من قانون نظام الإدارة المحلية، للدستور، وإذ تراءى لمحكمة القضاء الإداري عدم دستورية المادة المشار إليها، فقد قضت في 20 أكتوبر سنة 1992 في الدعوى الموضوعية بما يلي: "برفض الدفع بعدم اختصاصها ولائياً بنظر طلبي وقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 337 لسنة 1992، وباختصاصها، وبقبول الدعوى شكلاً، وبقبول تدخل السيد/ مدحت محمد السيد خصما منضما للمدعين في طلباتهم، وبرفض طلبي وقف تنفيذ القرارين المطعون فيهما، وبوقف الفصل في طلب الإلغاء، وأمرت بإحالة الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المادة 75 مكرراً من القرار بقانون رقم 43 لسنة 1979 بنظام الإدارة المحلية بعد تعديلها بالقانون رقم 145 لسنة 1988. وبناءً على هذه الإحالة، أقيمت الدعوى الماثلة.

وحيث إن البين من قرار الإحالة، أن محكمة الموضوع، تراءى لها أن المادة 75 من قانون نظام الإدارة المحلية، لازم تطبيقها في النزاع الموضوعي، وأن ما نصت عليه من انتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية عن طريق الجمع بين نظامي الانتخاب بالقوائم الحزبية والانتخاب الفردي، يناقض أحكام الدستور على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 19 مايو 1990 في القضية رقم 37 لسنة 9 ق "دستورية" بعدم دستورية نص المادة الخامسة مكرراً من القانون رقم 38 لسنة 1972 في شأن مجلس الشعب، ذلك أن هذين النصين - في تقدير محكمة الموضوع - متماثلان، ويتعلقان بنطاق مباشرة المواطنين لحقوقهم السياسية، مما يرجح ضبطهما بميزان واحد إعمالا لمبدأ المساواة أمام القانون.

وحيث إن المادة 161 من الدستور، تنص على أن تقسم جمهورية مصر العربية إلى وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، منها المحافظات والمدن والقرى، ويجوز إنشاء وحدات إدارية أخرى تكون لها الشخصية الاعتبارية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك كما تنص المادة 162 من الدستور، على أن تشكل المجالس الشعبية المحلية على مستوى الوحدات الإدارية عن طريق الانتخاب المباشر على أن يكون نصف أعضاء المجلس الشعبي على الأقل من العمال والفلاحين، ويكفل القانون نقل السلطة إليها تدريجيا وناطت المادة 163 من الدستور بالمشرع، أن يبين طريقة تشكيل المجالس الشعبية المحلية واختصاصاتها ومواردها المالية، وضمانات أعضائها، وعلاقاتها بمجلس الشعب والحكومة، ودورها في إعداد وتنفيذ خطة التنمية وفي الرقابة على أوجه النشاط المختلفة كذلك قضي قانون نظام الإدارة المحلية الصادر بالقرار بقانون رقم 43 لسنة 1979 في مادته الأولى، بأن وحدات الإدارة المحلية هي المحافظات والمراكز والمدن والأحياء والقرى. ونص في مادته الثالثة على أن يكون لكل وحدة من وحدات الإدارة المحلية. مجلس شعبي محلي يشكل من أعضاء منتخبين انتخاباً مباشراً عن طريق الجمع بين نظام الانتخاب بالقوائم الحزبية ونظام الانتخاب الفردي وفقاً لأحكام هذا القانون، على أن يكون نصف عدد الأعضاء على الأقل من العمال والفلاحين. ونص هذا القانون كذلك - في مادته العاشرة - على، أن يشكل في كل محافظة مجلس شعبي محلي من ثمانية أعضاء من كل مركز أو قسم إداري على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي ويكون تمثيل كل مركز أو قسم إداري في كل من محافظات القناة ومطروح والوادي الجديد وشمال سيناء وجنوب سيناء والبحر الأحمر، باثني عشر عضوا على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي. وقضى في المادة 39، بأن يشكل في كل مركز، مجلس شعبي محلي، تمثل فيه المدينة عاصمة المركز بعشرة أعضاء، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي. وتمثل المدينة التي تضم أكثر من قسم إداري باثني عشر عضواً، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي مع مراعاة تمثيل جميع الأقسام الإدارية المكونة للمدينة.

 وتمثل باقي الوحدات المحلية في نطاق المركز بثمانية أعضاء عن كل وحدة، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي كذلك نص ذلك القانون في المادة 47، على أن يشكل في كل مدينة مجلس شعبي محلي يمثل فيه كل قسم إداري باثني عشر عضواً، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي، ويكون تمثيل المدينة ذات القسم الواحد، بعشرين عضواً على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي أما المادة 59 من ذات القانون، فقد نصت على أن يشكل في كل حي، مجلس شعبي محلي، يمثل فيه كل قسم إداري بعشرة أعضاء، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي. ويشكل المجلس الشعبي المحلي للحي الذي يضم قسما إدارياً واحدا، من ستة عشر عضواً، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي ونصت المادة 66 من ذلك القانون على أن يشكل في كل قرية مجلس شعبي محلي من عشرين عضواً، على أن يكون أحدهم بالانتخاب الفردي فإذا كان نطاق الوحدة المحلية للقرية يشمل مجموعة من القرى المتجاورة، تمثل عن طريق الانتخاب بالقوائم الحزبية، القرية التي فيها مقر المجلس بعضوين على الأقل، وباقي القرى بعضو واحد لكل منها، على أن يكون المجموع الكلي لعدد أعضاء المجلس زوجيا. كما نص قانون نظام الإدارة المحلية - السالف بيانه، في المادة 75 مكرراً، على ما يأتي:

يكون انتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية على اختلاف مستوياتها عن طريق الجمع بين نظام الانتخاب بالقوائم الحزبية ونظام الانتخاب الفردي، ويكون لكل حزب قائمة خاصة. ولا يجوز أن تتضمن القائمة الواحدة أكثر من مرشحي حزب واحد، وتبطل كل قائمة يثبت أنها تتضمن أسماء منتمية لحزب غير الحزب مقدم القائمة.

ويطبق حكم الفقرة الأولى من المادة 214 مكرراً من قانون العقوبات، على كل تزوير يقع في إحدى هذه القوائم، أو على أي محرر آخر يتعلق بها، وكذلك كل استعمال لهذه القوائم والمحررات.

ويحدد لكل قائمة رمز يصدر به قرار من المحافظ.

ويجب أن تتضمن كل قائمة عدداً من المرشحين مساويا لعدد الأعضاء الممثلين للمجلس الشعبي المحلي ناقصا واحدا، وعدداً من الاحتياطيين يقدر بنصف عدد الأعضاء المطلوب انتخابهم على الأقل، على أن يكون نصف المرشحين أصليا واحتياطيا على الأقل من العمال والفلاحين.

وعلى الناخب أن يبدي رأيه باختيار إحدى القوائم بأكملها دون إجراء أي تعديل فيها، وتبطل الأصوات التي تنتخب أكثر من قائمة، أو مرشحين من أكثر من قائمة، أو تكون معلقة على شرط، أو إذا أثبت الناخب رأيه على قائمة غير التي سلمها إليه رئيس اللجنة أو على ورقة عليها توقيع الناخب، أو أية إشارة أو علامة أخرى تدل عليه. كما تبطل الأصوات التي تعطى لأكثر من العدد الوارد بالقائمة، أو لأقل من هذا العدد.

ويجري التصويت لاختيار المرشح الفرد في الوقت ذاته الذي يجري فيه التصويت على القوائم الحزبية، وذلك في ورقة مستقلة، ويحدد لكل مرشح فرد رمز أو لون مستقل يصدر به قرار من المحافظ. وتبطل الأصوات التي تنتخب أكثر من مرشح واحد، أو تكون معلقة على شرط، أو إذا أثبت الناخب رأيه علي ورقة غير التي سلمها إليه رئيس اللجنة، أو على ورقة عليها توقيع الناخب، أو أية إشارة أو علامة تدل عليه.

وحيث إن الأصل في النصوص الدستورية، أنها تفسر بافتراض تكاملها باعتبار أن كلا منها لا ينعزل عن غيره، وإنما تجمعها تلك الوحدة العضوية التي تستخلص منها مراميها، ويتعين بالتالي التوفيق بينها، بما يزيل شبهة تعارضها ويكفل اتصال معانيها وتضاممها، وترابط توجهاتها وتساندها، ليكون ادعاء تماحيها لغوا، والقول بتآكلها بهتانا؛ وكان مضمون الحقوق السياسية التي يثيرها النزاع الراهن، إنما يتحدد على ضوء اتصال هذه الحقوق بمبدأ تكافؤ الفرص، وبإعمال مبدأ المساواة أمام القانون، ودون إخلال بالمقومات الأساسية للمجتمع التي تعمل الأحزاب في نطاقها، والتي نظمها الباب الثالث من الدستور، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالتضامن الاجتماعي؛ متى كان ذلك، فإن أحكام المواد 7، 8، 04، 62 من الدستور، يتعين النظر إليها في مجموعها باعتبارها وحدة يقتضيها الفصل في النزاع الماثل.

وحيث إن هذا النزاع، وإن انصب لفظا على المادة 75 مكرراً من قانون نظام الإدارة المحلية، إلا أن المناعي التي بينها الحكم المحيل تدور في حقيقتها - وبالنظر إلى ما قصده هذا الحكم منها - حول خصائص النظامين الانتخابيين اللذين قام عليهما تكوين المجالس الشعبية المحلية، قولا بتعارض النصوص التي انتظمتهما، للدستور ومن ثم تكون النصوص القانونية المتصلة بهذين النظامين هي مدار الطعن، وهي التي يتحدد على ضوئها حقيقة المسائل الدستورية التي تدعى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيها.

وحيث إن الفصل في هذه المناعي، لا يعتبر اقتحاما للحدود التي تباشر السلطة التشريعية أو التنفيذية اختصاصاتها التقديرية في نطاقها وفقا للدستور، ولا يقتضي كذلك إعمال معايير أو ضوابط أو موازين تفتقر إليها المحكمة الدستورية العليا في مباشرتها لوظيفتها القضائية، بل توكيد لسيادة الدستور.

وحيث إن ضمان الدستور - بنص المادة 7 4 - لحرية التعبير عن الآراء، والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول، أو بالتصوير، أو بطباعتها، أو بتدوينها، وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها. وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة. وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً.

وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 47 من الدستور، أبلغ ما تكون أثرا في مجال اتصالها بالشئون العامة وعرض أوضاعها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير، أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام Public Mind، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقا دون تدفقها كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 47 من الدستور، لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، بل كذلك اختيار الوسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها، ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكليا أو سلبيا، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولا بتبعاتها، وألا يفرض أحد على غيره صمتا، ولو بقوة القانون Enforced Silence.

وحيث إن حرية التعبير التي كفلها الدستور على ما تقدم، هي القاعدة في كل تنظيم ديموقراطي، لا يقوم إلا بها، ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكارا لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.

وحيث إن حرية التعبير - في مضمونها الحق - تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم، وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض، بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها لبعض، ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكال الاجتماع. ذلك أن الانعزال عن الآخرين يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها، ولو كان أفقها ضيقا Narrowness أو كان عقمها أو تحزبها One Sidedness باديا.

بل إن حرية القول والصحافة والعقيدة وتقديم العرائض للحصول من المسئولين على الترضية التي يقتضيها رد عدوان قائم أو محتمل، لا يمكن ضمانها ضماناً كافيا، إلا من خلال شكل من أشكال الاجتماع، تتكتل فيه الجهود للدفاع عن مصالح بذاوتها، يكون صونها لازما لإثراء ملامح من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يكفل تنوع مظاهرها واتساع آفاقها، واستخلاص اتجاه عام من خلال تعدد الآراء التي تطرح على مسرحها.

وحيث إن الدستور كفل لكل مواطن حق الاقتراع، وفقا للشروط التي يحددها المشرع ولا ينال محتواه، وكانت الحماية التي كفلها الدستور للمواطنين، وأحاط بها هذا الحق، لا تقتصر على مجرد تمكينهم من الإدلاء سراً بأصواتهم في صناديق الاقتراع إذا كانوا مؤهلين قانونا لمباشرة هذا الحق، ولكنها تمتد لتفرض التزاما قانونيا بفرز أصواتهم هذه، والاعتداد بما يكون منها صحيحا ؛ وكان إهدار حقهم في الاختيار لا يتخذ شكلا واحداً، وإنما يقع بوسائل متعددة، من بينها إنكار حقهم في الاقتراع ابتداءً، وكذلك إبدال أصواتهم وتزييفها، وتكديس صناديق الاقتراع بغيرها Ballot Box Stuffing، ذلك أن نظاما ديمقراطيا للحكم، يفترض أن يكون حق الاقتراع منضبطا وفق قواعد محددة يكون إعمالها منصفا وفعالا، فلا يباشره المواطنون مثقلا بقيود تؤثر في وزن أصواتهم لتضعفها، أو تفرقها، كتلك التي تمايز بين المواطنين تبعا لأصلهم، أو مكان توطنهم، بل يتعين دوما أن يكون هذا الحق متكافئا نطاقا، وهو ما يظهر على الأخص في الدوائر الانتخابية التي تتماثل فيما بينها في عدد سكانها، إذ ينبغي - وكلما كان ذلك ممكنا عملا - أن يكون ممثلوها متكافئين عدداً Equal Representation for Equal Number of People as nearly as Practicable.

وحيث إن من المقرر كذلك، أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور والقانون صفتها التمثيلية، لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم، ذلك أن هذين الحقين مرتبطان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما. ولا يجوز بالتالي أن تفرض على مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها Integrity and Reliability of the Electoral Process أو بما يكون كافلا إنصافها، وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها، بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها، بما يصون حيدتها، ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين فيها.

ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية، إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من المواطنين - ودون أسس موضوعية - من فرص الترشيح لعضوية تلك المجالس أو تقييدها، ذلك أن أثرها هو إبعاد هؤلاء نهائيا عن العملية الانتخابية بأكملها، وحجبهم بالتالي عن الإسهام فيها، بما مؤداه احتكار غرمائهم لها، وسيطرتهم عليها دون منازع، وإنهاء حق المبعدين عنها في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجهاتهم، وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين، وبوجه خاص كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم بل إن القيم العليا لحرية التعبير - بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها - ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلا ومفتوحا، بل مقصورا على فئة بذاتها من المواطنين، أو متعاظما بمركزهم بناء على صفتهم الحزبية، أو منحصرا في مسائل بذواتها لا يتعداها.

كذلك فإن حق الناخبين في الاجتماع مؤداه ألا تكون الحملة الانتخابية - التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم، وإطارا يحددون من خلالها أولوياتهم - محدودة آفاقها على نحو يقلص من الفرص التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين، وانتقاء من يكون من بينهم شريكا معهم في أهدافهم Like - minded Citizens قادرا على النضال من أجل تحقيقها ولا يجوز من جهة أخرى التذرع بتنظيم العملية الانتخابية سواء من حيث زمانها، أو مكان إجرائها، أو كيفية مباشرتها The Time, place, and manner of elections للإخلال بالحقوق التي ربطها الدستور بها بما يعطل جوهرها، ولا لتأمين مصالح جانبية محدودة أهميتها، ولا التدخل بالقيود التي يفرضها المشرع عليها للحد من حرية التعبير - وهي قاعدة التنظيم الانتخابي ومحوره - ذلك أن تنظيم العملية الانتخابية لا يكون ممكنا إلا إذا كان معقولاً reasonable، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان محايداً في محتواه - Content based regulation بما يوفر لهيئة الناخبين الحقائق التي تُعِينها على تحديد موقفها من المرشحين الذين يريدون الظفر بثقتها، من خلال تعريفها بأحقهم في الدفاع عن مطالبها، بمراعاة ملكاتهم وقدراتهم، ولتكون مفاضلتها بينهم على أسس موضوعية لها ما يظاهرها، ووفق قناعتها بموقفهم من قضاياها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين ألا يحال بين المرشحين والفرص التي يقتضيها نشر الأفكار والآراء التي يؤمنون بها، ونقلها إلى هيئة الناخبين التي لا يجوز فرض الوصاية عليها، ولا تعريضها لتأثير يؤول إلى تفككها أو اضطرابها، أو بعثرة تكتلاتها، ولا أن تعاق قنواتها إلى الحقائق التي تريد النفاذ إليها، ذلك أن اتساع قاعدة الاختيار فيما بين المرشحين، ضمانة أساسية توفر لهيئة الناخبين ظروفا أفضل، تمنح من خلالها ثقتها لعناصر من بينهم تكون - في تقديرها - أجدر بالدفاع عن مصالحها. فإذا ما حد المشرع من قاعدة الاختيار هذه، وضيق من دائرتها، فقد حق الاقتراع مغزاه.

وحيث إن الاتحاد الاشتراكي العربي - وعلى ما كانت تنص عليه المادة 5 من الدستور، اعتبر تنظيما سياسيا، يقوم على أساس مبدأ الديموقراطية، كافلا تحالفا بين الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية، ليكون أداتهم في تعميق القيم الديموقراطية، ومتابعة العمل الوطني في مختلف مجالاته. وقد أصبحت تنص بعد تعديلها في 22 مايو 1980، على أن يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور.

 وحيث إن مؤدى نص المادة 5 المشار إليها - بعد تعديلها - أن الدستور توخي العدول عن التنظيم الشعبي الوحيد ممثلا في الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان مهيمنا وحده على العمل الوطني، مسيطرا على مجالاته المختلفة، لينصهر المواطنون جميعهم في إطار توجهاته لا يفارقونها، فلا يملكون لها تبديلا، بل يحملون عليها حملا، وينقلبون بها - وعلى تباين اهتماماتهم - نمطا واحدا، فلا يتدبرون شئونهم، أو يديرون حولها حواراً جاداً، وهو ما يناقض ديموقراطية العمل الوطني، ويخل بمفهومها المتجانس مع طبيعتها، ويحيلها لغوا وكان على واضعي الدستور، في نطاق التزامهم الأصيل بالعدول عن الأوضاع التي جاوزها الزمن، أو تخطاها التطور، أو قيدتها النظم المعاصرة - في أشكالها الأكثر تقدما - إهدار صيغة الاتحاد الاشتراكي العربي لجمودها وانغلاقها، ومجافاة مضمونها لحرية الخلق والإبداع، وهدمها لشخصية المواطن وتكامل عناصرها. ولم يكن أمامهم من خيار إلا اعتناق التعددية الحزبية بديلا عنها، بوصفها إطارا إيجابيا للحياة السياسية على تباين مستوياتها، فلا تتلون بلون واحد، ولا تكون الإرادة الواحدة - من أعلى - محورا لها، بل يكون مناخها تبادلا حرا غير معاق للآراء على اختلافها، وإثراء لها في دائرة أعرض، ليكون تلاقيها، منبئا عن الحقائق التي تتصل بها. ذلك أن التعددية الحزبية تحمل في أعطافها تنظيما يطرح عديدا من الآراء، مبلورا تعارضها، أو توافقها، تنافرها، أو تلاؤمها، مرجحا بعضها على ما عداها على ضوء تقييمها في إطار من المصالح القومية بوصفها ضابطا يحد من جموحها أو انفلاتها ولم تكن التعددية الحزبية بالتالي صيغة اعتنقها الدستور لإبدال سيطرة تنظيم معين بغيره، ولا تغليبا للتحكم، بل قصد بضمانها أن تكون أسلوبا قويما للعمل الوطني من خلال ديموقراطية الحوار - وما يتصل بها من سلطة التقرير - إنهاء لهيمنة الأقلية أيا كان وزنها الاجتماعي، كي لا تضل بأهوائها، أو تقبع في ظلماتها.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الدستور اتخذ من التعددية الحزبية طريقا فاعلاً - لا وحيداً - لتعميق المفهوم الديموقراطى لنظام الحكم، مؤكداً بذلك أن الديموقراطية لا يجوز أن تكون إجماعا زائفاً أو تصالحاً مرحلياً أو عملا لتهدئة الخواطر، وأنها - في مضمونها ومرماها - اعتصام بالإرادة الشعبية ليكون النزول عليها حقاً، وواجباً. وهي باعتبارها كذلك ينافيها تقرير أفضلية لبعض المواطنين على بعض في شأن الحقوق التي يمارسونها، أو التمييز بينهم في ذلك لاعتبار يتعلق بانتماءاتهم السياسية، أو ارتكاناً على آرائهم أو ميولهم، أو عصبيتهم. وينقضها كذلك، ألا يكون التزاحم على مقاعد المجالس ذات الصفة التمثيلية، حقاً لكل مواطن في الحدود التي يقتضيها تنظيم هذا الحق، وبما يوفر لأيهم الفرص ذاتها التي يؤثر من خلالها - متكافئاً في ذلك مع غيره من المواطنين - في تشكيل إطار للمصالح القومية، وطرائق تحقيقها وتلك هي الإرادة الشعبية التي تعبر في صورها الأكثر شيوعاً، عن وجودها، من خلال اختيارها الحر لممثليها في تلك المجالس، وعن طريق وزن أصواتها التي تحدد من يظفرون بثقتها ولا يتصور بالتالي أن تكون الحقوق السياسية التي كفلها الدستور بنص المادة 26 - وقوامها حقاً الاقتراع والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء - وقفاً على الحزبيين يديرون زمامها، ويملكون ناصيتها، منفردين بتبعاتها، وإلا صار أمر التعددية الحزبية تغليباً لفئة من المواطنين تدين بالولاء لأحزابها، وتشويها للحياة السياسية التي قصد الدستور إلى إنمائها بعد عِقَمها، وإقصاء لغير الحزبيين عن الإسهام فيها، وإهدارا لحقهم - كبر عددهم أو قل - في الدفاع عن مبادئهم، وأن يكون موقعهم من هيئة الناخبين، وإمكان تأثيرهم فيها، للحصول على ثقتها بمرشحيهم، مساوٍ لغيرهم.

وحيث إنه متى كان ذلك، تعين ألا يكون الانتماء الحزبي طريقاً لا بديل عنه للفوز بعضوية المجالس التي يكون الحوار والنقاش قاعدة للعمل فيها Deliberative Assemblies.

ومن غير المفهوم كذلك أن يطلق المشرع حق الاقتراع للمواطنين المؤهلين لمباشرة حقوقهم السياسية، وأن يتخذ موقفا مختلفا من ترشيحهم لعضوية تلك المجالس، ذلك أن هذين الحقين متكاملان، ويتبادلان التأثير فيما بينهما، وبوجه خاص من خلال القيود التي يفرضها المشرع على أيهما وما كان الدستور ليرد إلى الصورة الحزبية، مواطنين يأبونها، ليصبغهم بها، فلا يلجون الطريق إليها طوعاً، وهو ما يناقض حق الاجتماع المنصوص عليه في المادة 54 من الدستور، ذلك أن الأصل في أشكال التجمع على اختلافها - والتنظيم الحزبي من صورها - أن تكون الإرادة مدارها، سواءً عند الانضمام إليها، أو الخروج منها.

وحيث إن ما تقدم يؤيده، أن الأصل في العمل الوطني، أن يكون جماعياً يقوم على تضافر الجهود وتعاونها، فلا يمتاز بعض المواطنين على بعض في إدارة الشئون القومية أو تصريفها، بل تنعقد السيادة لجموعهم يباشرونها على الوجه المبين في الدستور على ما تقضى به مادته الثالثة، بما يتفرع عن هذه السيادة من نتائج، من بينها عدم جواز تجزئتها، وتواصل أمتهم وتضامن أجيالها، وغلبة مصالحها العليا ودوامها، وقيام نظام الحكم فيها على أساس تمثيلي Regime Representative.

 وإذ يتزاحم المواطنون على مقاعد المجالس الشعبية، فإن انتماءاتهم الحزبية لا تقدمهم على غيرهم، ولا تمنحهم أفضلية أياً كان نوعها، بل يكون نصيبهم من الإسهام في الحياة السياسية، عائداً إلى هيئة الناخبين، ومحدداً على ضوء مقاييسها، ذلك أن هذه الهيئة، هي التي تفرض من خلال أصواتها - وبعيداً عن أشكال الانتماء أياً كان لونها - من يفوز بثقتها، وآية ذلك ما يأتي:

أولا: أن صور التمييز بين المواطنين التي قصد الدستور إلى منعها بنص المادة 40، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وعلى رأسها - وفي مركز الصدارة منها - حقاً الاقتراع والترشيح باعتبارهما محور السيادة الشعبية وقاعدة بنيانها - فلا يجوز إنكار أصل وجودها أو تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً لممارستها أو الانتفاع بها ولازم ذلك أمران:

أولهما: ألا يكون الانتماء الحزبي شرطاً لانتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية، إذ يعتبر هذا الشرط مقحماً على تكوينها، مجافياً لأهدافها، مطلقاً يد الحزبيين، لتكون لأحزابهم كل الحقوق التي تهيمن بها على مسرح الحياة السياسية، فلا تنفلت منها أو ينازعها فيها خصيم؛ متحيفاً على مواطنين آخرين لا يختلفون عن الأولين إلا في الاستقلال عن تحزبهم، ولكنهم لا يصيبون من تلك الحقوق شيئاً، ولا يتولون قدراً من مسئوليتها، بل يكون نصيبهم منها عدماً أو فتاتاً.

ثانيهما: ألا يتخذ المشرع من تنظيم الحقوق السياسية، مدخلاً لتقرير مزايا للحزبيين تربو بها فرصهم في الفوز بمقاعد المجالس الشعبية المحلية على من عداهم، ذلك أن تنظيم الحقوق جميعها وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في الحدود التي يقتضيها الصالح العام، إلا أن سلطته هذه لا يجوز أن تنال من تلك الحقوق بما يقلص من محتواها، أو يجردها من خصائصها أو يقيد من آثارها، وإلا كان هذا التنظيم مخالفاً للدستور.

ثانياً: أن ما نص عليه الدستور في المادة 7، من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها، ومزاوجتها ببعض عند تعارضها، واتصال أفرادها وترابطهم بما يرعى القيم التي تؤمن بها، ليكون بعضهم لبعض ظهيراً فلا يتفرقون بدداً. وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتقدم فريق منهم على غيره في الحقوق التي يباشرها، ولا ينال قدراً منها يكون بها أكثر امتياز من سواه، بل يتمتعون جميعهم - وبغض النظر عن آرائهم ما كان منها سياسياً أو رمزياً أو متخذاً غير ذلك من الأشكال - بالحقوق عينها - التي تتكافأ مراكزهم القانونية قبلها، وبالوسائل ذاتها التي تعينهم على ممارستها. ولا يجوز بالتالي - وفي نطاق المجالس الشعبية المحلية - أن يقبض المشرع يده عن نفر من المواطنين ليكون صوتهم فيها خافتاً، وموقفهم متراجعاً، وأن يبسطها على غيرهم لتكون أكثر تمثيلاً لمصالحهم، وأحفل بشئونهم. ثالثا: إن حق تكوين الأحزاب السياسية، واختيار قياداتها، وإدارة الحوار الحر حول برامجها، وإصدار قراراتها وفق أسس ديمقراطية، فضلاً عن تمويلها تمويلاً ذاتياً، ليعمل المنضمون إليها على تأييد أهدافها والوفاء بتطلعاتها، كان قد تقرر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 الصادر قبل إلغاء الاتحاد الاشتراكي بمقتضى المادة 5 من الدستور بعد تعديلها. وقد أبان هذا القانون - وعلى ما جاء بمذكرته الإيضاحية وتقرير اللجنة التشريعية - أن الحق في تشكيلها يرتد إلى عدد من الحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور، من بينها الحق في الاجتماع، وحرية المواطنين في التعبير عن آرائهم وعقائدهم السياسية، ومباشرة أحزابهم لسلطة التقرير من خلال إسهام أعضائها في الاقتراع والترشيح والاستفتاء، وهو ما يعني أن التعددية الحزبية لا يمكن أن تكون قيدا على تعدد الآراء واختلافها، ولا أن تنقلب عليها بعد تفرعها عنها، وإلا كان وجودها عبثاً.

وحيث إن البين من قانون نظام الإدارة المحلية، أن لجمهورية مصر العربية وحداتها الإقليمية التي تمتد لتشمل محافظاتها ومراكزها ومدنها وأحياءها وقراها، لتكون لكل منها شخصيتها الاعتبارية ومجلسها الشعبي الخاص بها، على أن يكون اختيار أعضاء هذه المجالس الشعبية جميعها، عن طريق الجمع بين نظامين انتخابيين، لا يمتزجان ببعضهما، بل يقوم كل منهما مستقلاً عن الآخر، هما نظام الاقتراع بالقوائم الحزبية والاقتراع عن طريق الدوائر الفردية؛ وكان من المفترض أن تتكافأ فرص المواطنين جميعهم في الفوز بمقاعد تلك المجالس التي تتباين فيما بينها عددا تبعاً لمستوياتها، لتصل في المجلس الشعبي للمحافظة إلى ثمانية مقاعد لكل من مراكزها وأقسامها الإدارية، وفي نطاق القرية الواحدة - وعلى صعيد مجلسها - إلى عشرين مقعداً. بيد أن المشرع انحاز انحيازاً شبه كامل لصالح المدرجين في القوائم الحزبية، مرجحاً كفتهم، إذ خولهم التزاحم فيما بينهم على مقاعد المجالس الشعبية جميعها، عدا واحد في كل منها يتنافس عليه من ينتخبون انتخاباً مباشراً من غير الحزبيين، ويزاحمهم فيه كذلك هؤلاء الذين تدفعهم أحزابهم السياسية - من بين أعضائها غير المدرجين في قوائمها الحزبية - للحصول عليها. وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن المشرع أتاح للحزبيين فرصتين يتهيأ لهم بهما إمكان اقتناص مقاعد المجالس الشعبية بكاملها: إحداهما: حين ترشحهم أحزابهم من خلال قوائمها الحزبية للفوز بما يخصهم من مقاعد تلك المجالس وفقاً لنظام القوائم الحزبية، وأخراهما حين يتنافس بعض أعضائها - من غير المدرجين في قوائمها - مع غير الحزبيين للحصول على المقعد الوحيد المتاح تشريعياً لمن ينتخبون انتخاباً فردياً أما المستقلون، فإن فرصهم في التمثيل داخل المجالس الشعبية، لن تزيد في أية حال على مقعد واحد في كل منها، بفرض فوزهم به والتمييز بين الحزبيين وغيرهم بناء على الصفة الحزبية وحدها، يصم هذا التنظيم بعيب مخالفة الدستور، ذلك أن الحزبيين ومن خلال وزن مقاعدهم يكونون أثقل تمثيلاً في تلك المجالس، وأعلى قدراً في البنيان الاجتماعي وعلى نقيضهم هؤلاء الذين نبذوا الحزبية، معرضين عنها متبنين توجها مغايراً، إذ ينال المشرع من حقوقهم بما يضعفها، بل يكاد أن يعدمها، ليختل التكافؤ بين هؤلاء وهؤلاء دون أسس موضوعية تقتضيها طبيعة حق الترشيح وأبعاده، أو تفرضها الشروط المنطقية التي تتطلبها ممارسته، فكان هذا التمييز بذلك تحكمياً منهياً عنه دستورياً، ذلك أن مبناه ومرماه، آراء بذاتها يدين أصحابها بها، ولا يجوز عقابهم بسببها أو تقييدها لردهم عنها، بل إن الاعتداء عليها وفقاً لنص المادة 57 من الدستور، جريمة لا تتقادم بمضي الزمن ولو بعد عهداً.

وحيث إنه متى كان ذلك، تعين الحكم بإبطال المواد 3، 10، 39، 47، 59، 66، 75 مكرراً من قانون نظام الإدارة المحلية المشار إليه، لمخالفتها أحكام المواد 7، 8، 40، 62 من الدستور، وذلك فيما قررته من أن يتم انتخاب عضو واحد في كل مجلس من المجالس الشعبية المحلية بطريق الانتخاب الفردي، وأن يكون اختيار باقي أعضائه عن طريق القوائم الحزبية. وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت انتخابات المجالس الشعبية المحلية قد أجريت بناء على نصوص تشريعية ثبت عدم دستوريتها بما انتهت إليه هذه المحكمة من قضاء في الدعوى الماثلة، وكان استصحاب الطبيعة الكاشفة لأحكامها، وعملا بأثرها الرجعي، مؤداه أن يكون تكوين هذه المجالس باطلاً منذ انتخابها، إلا أن هذا البطلان لا يستتبع إسقاط ما اتخذته هذه المجالس من قرارات أو إجراءات منذ إنشائها وحتى تاريخ نشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية، بل تظل هذه القرارات والإجراءات وكذلك تصرفاتها الأخرى قائمة على أصلها من الصحة، وتبقى صحيحة ونافذة وذلك ما لم يتقرر إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة دستوريا، أو يقضى بعدم دستورية أحكامها من المحكمة الدستورية العليا، إن كان لذلك ثمة وجه أخر غير ما بني عليه هذا الحكم.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية المواد 3 و10 و39 و47 و59 و66 و75 مكرراً من قانون نظام الإدارة المحلية الصادر بالقرار بقانون رقم 43 لسنة 1979، وذلك فيما قررته من انتخاب عضو واحد في كل مجلس من المجالس الشعبية المحلية بطريق الانتخاب الفردي، وانتخاب باقي أعضائه عن طريق القوائم الحزبية.

 

 

 

 

 

العودة للصفحة الرئيسية