الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 78
الكسندر هاملتون
Alexander Hamilton
28 مايو، 1788


إلى أهالي ولاية نيويورك:
ونمضي الآن إلى تفحص الدائرة القضائية في الحكومة المقترحة. في أثناء كشفنا مساوئ الكونفدرالية الحالية، تمت الإشارة بوضوح إلى فائدة وجود قضاء فدرالي وضرورته. ولا حاجة كبيرة هنا إلى إجمال الاعتبارات التي أثيرت آنذاك،1 لأن وجود المؤسسة بالمعنى التدريجي أمر لا نزاع حوله؛ أما السؤال الوحيد الذي أثير بخصوصها فكان حول طريق تشكيلها والمدى المحدد لها. وفي هذه النقاط إذن سوف نحصر ملاحظاتنا.
يبدو أن بحث طريقة تشكيل الدائرة القضائية يشتمل الأهداف الكثيرة التالية:
أولاً: طريقة تعيين القضاة. ثانياً: فترة بقائهم في مناصبهم. ثالثاً: تقسيم السلطة القضائية بين المحاكم المختلفة والعلاقات فيما بينها.
أولاً: أما بخصوص طريقة تعيين القضاة، فهي نفس الطريقة التي يتم بها تعيين موظفي الاتحاد بصورة عامة، وقد وفينا البحث عن ذلك في الورقتين الأخيرتين، حتى لم يبق ما يقال إلا تكراراً لا طائل منه.
ثانياً: وأما من حيث مدة بقاء القضاء في مناصبهم فإن ذلك يرتبط أساساً باستمرارهم في الخدمة وشروط إعالتهم، والاحتياطات المتعلقة بمسئولياتهم.
وحسب خطة المؤتمر يكون لجميع القضاة الذين يتم تعيينهم من قبل الولايات المتحدة أن يبقوا في مناصبهم طالما ظل سلوكهم جيداً؛ وينسجم هذا مع معظم دساتير الولايات التي تم إقرارها، وبينها دستور هذه الولاية. وليست صوابية ذلك، والتي أثار التساؤل بصددها خصوم تلك الخطة عارضاً قليل الأهمية على الالتهاب الذي يهيج تصوراتهم وأحكامهم. إلا أن مقياس "السلوك الجيد" للاستمرار في المنصب لدى الموظف القضائي، مقياس من أعظم التحسينات القيمة والحديثة في مزاولة الحكم. فهو في النظام الملكي عائق ممتاز يحول دون طغيان الأمير أو الملك؛ وفي النظام الجمهوري ليس عائقاً أقل قدراً، إذ يحول دون تجاوزات وضغوط مجلس الممثلين. بل إنه أفضل عقبة يمكن اختراعها في أية حكومة لضمان إدارة مستقرة، مستقيمة، وغير متحيزة لتصريف القوانين.
إن كل من يتأمل الدوائر الأخرى ذات السلطة بانتباه لا بد أن يدرك أنه: في حكومة تكون دوائر الحكم فيها منفصلة الواحدة منها عن الأخرى، تظل الدائرة، القضائية، بحكم طبيعة مهماتها، هي الدائرة الأقل خطراً على الحقوق السياسية في الدستور؛ لأن تلك الدائرة أقل من غيرها قدرة على مضايقة الدوائر الأخرى أو الإضرار بها. فالرئيس لا يمنح أوسمة التكريم فحسب بل يقبض على سيف المجتمع أيضاً. والتشريع لا يسيطر على الجيب (الخزينة) فقط، بل يحدد القواعد التي وفقها يتم تنظيم واجبات وحقوق كل مواطن. أما القضاء على العكس من ذلك، إنه لا يستطيع التأثير، لا على السيف ولا على الجيب؛ ولا في توجيه أي من القوة ولا الثروة الموجودة في المجتمع. وليس في مقدوره اتخاذ أي قرار فعال أياً كان. ويمكن القول بكل صدق: إن السلطة القضائية لا تملك القوة ولا الإرادة، وإنما مجرد إصدار الحكم، وعليها في نهاية الأمر أن تعتمد على مساعدة ذراع السلطة التنفيذية لنفاذ ما تصدره من أحكام.
إن هذه النظرة البسيطة إلى الأمور تشير إلى مترتبات كثيرة عظيمة الأهمية، فهي تثبت بلا منازع أن السلطة القضائية، عند المقارنة، هي الأخف بين دوائر السلطة الثلاث،2 فهي لا تستطيع أن تهاجم بنجاح أياً من الدائرتين. كذلك فهي تثبت أنه: مع أن الاضطهاد الفردي قد ينشأ بين فترة وأخرى من محاكم العدل، فإن حرية الشعب العامة لا تكون مهددة أبداً من تلك الدائرة؛ وأعني طالما بقيت الدائرة التنفيذية متمايزة بحق عن كل من الدائرة التشريعية والدائرة التنفيذية. وأنا أوافق على أنه "ليس هنالك حرية إذا كانت سلطة القضاء غير مفصولة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية". وهي تثبت في المقام الأول أنه: حيث أن الحرية ليس لديها ما تخشاه من السلطة القضائية وحدها، لكن لديها كل ما تخشاه من دمجها مع أي من الدائرتين الأخريتين؛ وحيث أن جميع آثار ذلك الدمج إنما تنشأ من اعتماد السلطة التنفيذية على الأخرى التشريعية، بصرف النظر عن الفصل الاسمي بينهما، وحيث أنه بفعل الضعف الطبيعي للسلطة القضائية فهي تظل مهددة بصورة مستمرة من أن تتم السيطرة عليها، وإرهابها أو التأثير فيها من خلال التنسيق بين فروعها؛ وحيث أنه ليس هناك ما يستطيع الإسهام بدرجة كبيرة في ثباتها واستقلاليتها قدر استمرار أعضائها في مناصبهم – فإنه يجوز اعتبار هذه الميزة إذن عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في تشكيل تلك الدائرة، بل يجوز اعتباره، إلى حد كبير، قلعة تحرس العدالة العامة والأمان للجميع.
إن الاستقلال التام للقضاء لهو أساسي بصورة فريدة في دستور محدد، وأنا أفهم بعبارة "دستور محدد" أنه ذلك الدستور الذي يحوي ضوابط معينة محددة لصلاحية المجلس التشريعي، مثل، أنه لن يقر أية لوائح بالتجريد من الحقوق المدنية، ولا الإقرار بالأمر الواقع، ولا ما أشبه ذلك. والحق أن قيوداً من هذا النوع لا يمكن الحفاظ عليها في التطبيق إلا من خلال محاكم القضاء، فهي التي من واجبها أن تعلن أن جميع الأفعال التي تناقض روح الدستور باطلة. وبدون هذا فإن كل أوجه الحرص على الحقوق أو الامتيازات الخاصة لا تغدو ذات قيمة أبداً.
هناك بعض الإشكال حول حق المحاكم في أن تعلن بطلان القوانين التي تم وضعها، لأن تناقضاً مع الدستور قد ينشأ من تصور أن هذه القاعدة تضمن سيادة للقضاء على السلطة التشريعية. ولقد أثيرت مقولة أن السلطة التي بمقدورها أن تعلن أن أفعال سلطة أخرى باطلة لا بد أن تكون ضرورة أعلى من السلطة التي يعلن بطلان إعمالها. ولما كانت هذه القاعدة ذات أهمية كبرى في جميع الدساتير الأمريكية فإن بحثاً مقتضباً للأرضية التي تستقر عليها لا يمكن أن يكون غير مقبول.
ليس هنالك أي منطلق يستند إلى مبادئ أكثر وضوحاً من مبدأ أن كل عمل تقوم به سلطة مفوضة، ويكون نقيضاً لروح التكليف الذي على أساسه تتم ممارسته، هو عمل لاغ. ومن ثم، ليس هناك إجراء تشريعي مناقض للدستور يمكن أن يكون صحيحاً. إن إنكار هذه الحقيقة معناه تأكيداً أن المفوض أرفع درجة ممن فوضه (رئيسه)؛ وأن الخادم أرفع شأناً من سيّده، وأن ممثل الشعب أرفع من الشعب نفسه؛ وأن الأشخاص الذين يتصرفون بموجب صلاحيات سلطاتهم يجوز لهم أن يفعلوا ما لا تخولهم إياه تلك السلطات، بل ما تحرمه عليهم!!
إذا قيل إن أعضاء المجلس التشريعي هم أنفسهم قضاة دستوريون على سلطاتهم الخاصة، وأن البنية التي يقيمونها على تلك السلطات نهائية ونافذة على جميع الدوائر الأخرى – فيجوز أن يجاب على ذلك بالقول: لا يمكن أن يكون هذا فرضية طبيعية، كما لا يمكن استخلاصه من اشتراطات خاصة في الدستور. إنه لا يجوز فرض ما يخالف ذلك، أي أن الدستور يمكن أن يقصد أن لممثلي الشعب أن يستبدلوا إرادتهم الخاصة بإرادة العناصر التي يمثلونها. والأكثر معقولية هو افتراض أن المحاكم قد وضعت كيما تكون هيئة وسطية بين المواطنين والتشريع، من أجل أن تبقي التشريع ضمن الحدود المخصصة لسلطاته. إن تفسير القوانين هو المجال المناسب الفريد لعمل المحاكم. فالدستور في الواقع هو، وكما على القضاة أن يعتبروه، هو أصل قانوني، وتبعاً لذلك يعود إليهم أن يحققوا معناه، شأنه في ذلك شأن معنى أي قانون خاص سنّه المجلس التشريعي. فإذا ما حدث تباين لا يمكن إصلاحه بين الاثنين فإن ذلك الذي له الإلزام والقوة الأعلى هو الذي يتوجب تفضيله، أو بكلمات أخرى، الدستور هو المفضل على القانون، فما يقصده الشعب مفضل على ما يقصده الوكلاء عنه.
ولا يفرض هذا الاستنتاج، بأية صورة، أي سيادة لصالح القضاء على السلطة التشريعية. إنه لا يفرض أكثر من أن سلطة الشعب ذات سيادة على كل منهما، وأنه حيثما تعلن إرادة التشريع في قوانينها وقوفها ضد إرادة الشعب، كما يعلن عنها الدستور – فإن على القضاة أن يتقيدوا بسلطة الشعب لا بالقوانين. إن عليهم أن ينظموا قراراتهم وفق القوانين الأساسية أكثر منها وفق القوانين غير الأساسية.
إن ممارسة هذا التمييز القضائي في حسم الأمر بين قانونين متناقضين قد حصل عليه المثل في حادثة معروفة للجميع. وليس من النادر أن يحصل وجود قانونين معمولاً بهما في الوقت نفسه يصطدمان بصورة كلية أو جزئية، الواحد منهما مع الآخر، دون أن يحوي أحدهما عبارة لإبطال المفعول. في مثل هذه الحال يكون من اختصاص المحاكم أن تفصّل وتحدد معناهما ومجال عملهما. وإلى الحد الذي يستطاع فيه التوفيق بينهما من خلال أي تركيب معقول، فإن المنطق والقانون يتضافران لإملاء وجوب أن يتم ذلك، وحيث يتعذر هذا عملياً، تغدو المسألة قضية ضرورة إنفاذ واحد منهما واستبعاد الآخر. والقاعدة التي تتبعها المحاكم لتقرير قوة النفاذ النسبية بينهما هي أن القانون الأحدث زمناً يجب أن يتم تفضيله على القانون الأقدم منهما. لكن هذا مجرد قاعدة تشكيلية، لا تنبع من أي قانون إيجابي وإنما من طبيعة المنطق الشيء ذاته. إنها قاعدة لا يمكن تطبيقها على المحاكم بناءً على إلزام تشريعي، وإنما هي قاعدة تبنتها المحاكم من عندها، كسند يُركن إليه طلباً للحقيقة والسداد، لتوجيه تصرف المحاكم بوصفها مفسرة للقانون. ولقد وجدت المحاكم أن من المعقول في حال القوانين المتداخلة ذات الصلاحية المتساوية أن تشير آخر الأمر إلى أن إرادتها نفسها هي التي يجب أن تتمتع بالأولوية.
أما بخصوص تداخل القوانين ذات الطبيعة الأعلى والصلاحية الفرعية الأدنى في سلطة مرجعية وفرعية، فإن طبيعة الشيء ومنطقه تشير إلى أن عكس تلك القاعدة هو الأنسب لأن يُتبع. وهي تعلّمنا أن القانون الأسبق زمناً للسلطة الأعلى هو الذي يتوجب تفضيله على القانون اللاحق من سلطة أدنى وصلاحية فرعية، وأنه بناءً على ذلك، حين يتعارض قانون معين مع الدستور فإن من واجب قضاة المحاكم أن يلتزموا بالدستور ويتجاهلوا ذلك القانون.
ولن تكون هناك أهمية للقول بأنه: يجوز للمحاكم بدعوى النفور والرفض أن تستبدل رغبتها الخالصة بالمرامي التي قصدها الدستور. ثم قد يحدث مثل هذا في حال قانونين متناقضين، كما قد يحدث أيضاً في كل مرة يتم فيها إصدار حكم قضائي حول قانون بمفرده. عند ذاك على المحاكم أن تعلن معنى القانون بصراحة؛ ثم ما إذا كانت ميالة لأن تمارس إرادتها الخاصة بدلا من الحكم القضائي. وستكون النتيجة بدورها هي الاستعاضة عن رغبات المحاكم لصالح رغبة المجلس التشريعي. وإذا كان للملاحظة أن تثبت شيئاً فإنما تثبت أنه يجب ألا يكون هنالك قضاة يخرجون عن ذلك المجلس.
وبناءً على ذلك إذا ما أريد أن تعتبر المحاكم متراساً لدستور محدد تحميه من اعتداءات سلطات التشريع، فإن هذا الاعتبار يوفر نقطة قوية في المناقشة لصالح استمرارية موظفي القضاء في مناصبهم، لأنه ليس هناك ما يستطيع الإسهام قدر هذا الأمر لترسيخ روح الاستقلالية في القضاء، والتي يلزم أن تكون أساسية لأداء أمين عند القيام بهذا الواجب الثقيل.
إن استقلال القضاة هذا في عملهم لهو متطلب مساو لحراسة الدستور وحماية حقوق الأفراد من تأثيرات الأمزجة السيئة التي تعززها حيل ذوي المكائد، أو تخلفها نفوذ اتحادات خاصة تقوم أحياناً بين المواطنين أنفسهم، وسرعان ما تخلي مكانها لإطلاع أدق وتفكير فيه روية أكثر فتبدي اتجاها حينذاك لخلق تجديدات خطرة في الحكم ومخاوف جدية لدى الفريق الأصغر في أوساط المجتمع. ومع أنني أثق بأن أصدقاء الدستور المقترح لن يتفقوا أبداً مع خصومه في إثارة ذلك المبدأ الأساسي في الحكم الجمهوري، الذي يقبل بحق الجمهور في أن يغير أو يلغي دستوراً تم إقراره، لكنه لا يتفق مع سعادة المواطنين – فإنه لا يجوز أن يُستخلص من هذا المبدأ أن لممثلي الشعب، كلما حدث، أن سيطر اتجاه مؤقت على أكثرية المواطنين لا يتفق مع الشروط الواردة في الدستور الحالي، أن يتخذوا ذلك مبررا كافياً للإخلال بتلك الشروط؛ ولا أن المحاكم ستكون ملزمة بأن تتغاضى عن إخلالات من هذا النوع بحجة أنها قد نشأت بكاملها من مكايد المجلس التمثيلي. وإلى أن يغير الشعب أو يلغي بقانون صارم وسلطوي صيغة الدستور المقررة حاليا يظل ملزماً لهم بصورة جماعية كما هو بصورة فردية؛ وليس هناك افتراض، أو حتى معرفةً ما بمشاعرهم، يمكن أن تسّوغ بممثليهم التخلي عنه قبل صدور مثل ذلك القانون. غير أنه من السهل أن نرى أن الأمر سوف يتطلب قدراً غير عادي من الجرأة والشجاعة لدى القضاة كي يقوموا بواجبهم كخفراء مخلصين لدستور كلما تم عدوان من السلطة التشريعية عليه أو التحريض عليه بفعل تصويت القسم الأكبر من المجتمع.
بيد أنه ليس من حيث النظر إلى الإخلالات بالدستور يصبح استقلال القضاة حارساً أساسياً ضد تأثير الأمزجة الشريرة، من وقت لآخر، على المجتمع. كلا، فقد لا يمتد هذا التأثير إلى أبعد من إلحاق ضرر بالحقوق الفردية لفئات خاصة من المواطنين بفعل القوانين الظالمة والمتحيزة؛ وهنا أيضاً يكون الحسم من جانب القضاء ذا أهمية بالغة في تلطيف حدة تلك القوانين وتضييق مجال عملها. إن استقلال القضاء لا يساعد فقط في تعديل الأضرار المباشرة من تلك القوانين التي أقرت، وإنما يعمل مثل كابح للمجلس التشريعي لئلا يمضيها. وحين يرى المجلس أن عقبات تعترض طريق نجاح تلك المقاصد الظالمة جراء تردد المحاكم – فإنه يجد نفسه مضطراً، بفعل الدوافع نفسها تجاه الظلم الذي يتداول في أمره الأعضاء، أن يعدّل محاولاته. هذا ظرف تمت دراسته، وأخذ في الحسبان أنه سيكون ذا تأثير أكبر على شخصية حكوماتنا أكثر مما يفطن له نفر قليل، إن فوائد النزاهة والاعتدال عند القضاة قد تم الإحساس بها في أكثر من ولاية واحدة ومع أن هاتين الصفتين قد غاظتا أولئك الذين خابت توقعاتهم الشريرة فإنهما قد استحوذتا على تقدير وتأييد جميع الأشخاص الفضلاء وغير المهتمين بالأمر أيضاً. ومن واجب أهل الرصانة من كل فئة أن يُجلوا كل ما يميل إلى خلق أو تقوية ذلك المزاج في المحاكم؛ مادام لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى أنه لن يكون الضحية في الغد لروح الظلم التي عادة عليه بالربح هذا اليوم. ومن واجب كل شخص أن يحسّ في الوقت الحاضر أن الاتجاه الحتمي لتلك الروح هو أن تمتص أساس الثقة والاطمئنان العام كي يتم استبدالهما بعدم الثقة والأسى.
إن الالتزام الثابت والموحّد بحقوق الدستور وحقوق الأفراد، والتي ندرك أنه لا غنى عنها في المحاكم، شأن من غير المتوقع أن يُنتظر من القضاة الذين يحتلون مناصبهم على أساس تكليف مؤقت بالعمل. وستكون التعيينات الدورية، كيفما تم تنظيمها، ودون النظر إلى من أجراها – قاتلة، على نحو أو آخر لاستقلال القضاة. فلو كانت سلطة إصدار تلك التعيينات موكولة إلى الرئيس أو المجلس التشريعي، لبرز خطر الاسترضاء غير الحق للفرع الذي يحوزها. وإن عهد بها إلى الفرعين، تبدّت عدم رغبة كل منهما في المخاطرة بالإساءة إلى الآخر. فإذا عُهد بذلك إلى جمهور الشعب، أو أشخاص انتخبهم الشعب لغرض خاص (كما في حال الرئيس) فسيغدو هناك اتجاه أكبر مما ينبغي لمغازلة الشعبية بغية تبرير القول بأنه لا شيء يمكن استشارته ما عدا الدستور والقوانين!!
وهناك أيضاً سبب آخر له أهميته للثبات في المناصب القضائية، يمكن استخلاصه من طبيعة المؤهلات التي تتطلبها تلك المناصب. فقد نوهنا أكثر من مرة، وبكل حق، أن ضخامة السجل القانوني هي إحدى المضايقات المرتبطة حكماً بحسنات الحكم الحر. ومن أجل أن نتجنب التمييز الاعتباطي في المحاكم يغدو لا مناص من أن تغدو تلك المحاكم مقيدة بقواعد صارمة، وسابقات تساعد في تحديد واجباتها والإشارة إليها في كل قضية لوحدها تعرض أمامها. وسيتم انطلاقاً من تنوع الخصومات التي تنشأ من الحماقة واللؤم في البشر، إدراك أن سجلات هذه السابقات ستظل تتزايد حتى تبلغ حجماً كبيراً، وتتطلب دراسة طويلة مضنية لاكتساب معرفة وافية بها. ولهذا السبب لن يتيسر إلا لنفر معدود في المجتمع أن يتحلوا بحذق كاف في أمور القوانين يؤهلهم لشغل منصب القاضي. وعند طرح عدد كاف من هؤلاء بحكم عدم الانضباط في الطبيعة البشرية يغدو عدد من يصلحون لمنصب القاضي أقل، إذ يكون على المتبقين منهم أن يجمعوا بين النزاهة المطلوبة والمعرفة اللازمة. ومن شأن هذه الاعتبارات أن تفرض ألا يكون لدى الحكومة خيار واسع بين الأشخاص المناسبين لذلك؛ وأن الاستمرار المؤقت في الخدمة سيثبط بطبعه مثل أولئك الأفراد ويثنيهم عن ترك خط مربح من العمل سعيا وراء مقعد في البرلمان، كما يخلق اتجاهاً لإلقاء إقامة العدل في يدين اقل قدرة وأقل تأهيلاً لتصريف أمورها بجدوى ووقار.
وفي الظروف الحالية في هذه البلاد، وفي الأخرى التي قد تظل مثلها لفترة طويلة في المستقبل، ستكون مساوئ ذلك الشرط أكبر مما تبدو عليه عند النظرة الأولى؛ وإن كانت باعترافنا أدنى كثيراً من تلك التي تلوح ضمن الجوانب الأخرى من الموضوع.
وعلى العموم، لن يكون هناك مجال للشك في أن المؤتمر قد تصّرف بحكمة حين استنسخ من نماذج الدساتير الأخرى التي سبق أن رسّخت سلوكاً جيداً بصدد استمرارية المناصب القضائية فيها، وبدلاً من أن تغدو خطته عرضة للملامة بسبب من ذلك فإنها كانت ستغدو ناقصة دون مبرر لو غابت عنها هذه السمة المهمة من الحكم الجيد. والواقع، أن تجربة بريطانيا العظمى تقدم لنا دليلاً مضيئاً على تميز هذه المؤسسة.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 550-558.
1- انظر في الورقة رقم: 22. (المراجع).
2- حين يتكلم مونتسكيو المعروف عن ذلك يقول: "بين السلطات الثلاث المذكورة آنفاً تكون السلطة القضائية أقرب إلى العدم" روح القوانين مج.أ ص 186.

العودة للصفحة الرئيسية