الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 64
جان جي
Jan Jay
5 مارس، 1788


إلى أهالي ولاية نيويورك:
يا لها من ملاحظة صادقة، وعتيقة تلك التي تقول: أن من يعادون أشخاصاً معينين ويعارضون قوانين معينة – نادراً ما يقصرون عداءهم على هذه الأشياء وحدها، بصفة أي منها جديراً بالملامة. ومن الصعب، إلا على أساس هذا المبدأ تفسير الدوافع في مسلك الذين يدينون الدستور المقترح في جملته ويعاملون، بكل فظاظة، بعض البنود الأكثر من غيرها قابلية للاستثناء، فيه.
فالفصل الثاني يمنح الرئيس "بتنسيب من مجلس الشيوخ وموافقته، سلطة أن يعقد معاهدات شرط أن تحظى بموافقة ثلثي الشيوخ الموجودين".
إن سلطة عقد المعاهدات سلطة مهمة، وبخاصة أنها ذات علاقة بالحرب والسلام، والتجارة، فلا يجوز تفويضها إلا بأسلوب كهذا، ومع احتياطات من هذا القبيل توافر أكبر قدر من الاطمئنان إلى أنه سوف يمارسها رجال مؤهلون خير تأهيل لذلك الهدف، وبأفضل سبيل يؤدي إلى حصول الخير العام. ويبدو أن المؤتمر كان منتبهاً إلى كل من هاتين النقطتين، إذ أوصوا أن يتم اختيار الرئيس من قبل هيئات منتقاة من الناخبين يفوضها المواطنون لهذا الغرض المخصوص، كما عهدوا بتعيين أعضاء مجلس الشيوخ إلى المجالس التشريعية في الولايات. ويحوز هذا الأنموذج في حالات كهذه ميزة الانتخاب من قبل الشعب بصفته الجماعية، حيث يستفيد نشاط الحماسة الحزبية، من التواني والجهل ومن آمال ومخاوف غير الواعين واللامبالين – وكثيراً ما يحل في المنصب أشخاصاً ينالونه بفعل أصوات نسبة صغيرة من الناخبين.
ولما كانت المجالس المنتقاة لاختيار الرئيس، شأنها شأن مجالس تشريع الولايات التي تعين الشيوخ، سوف تتألف على العموم من المواطنين الأعظم تنوراً من غيرهم وأكثر احتراما – فإن هناك منطقاً في افتراض أن اهتمامهم وأصواتهم سوف تتجه صوب النفر الذين غدوا أعظم تميزاً بفضل قدراتهم ونزاهتهم، والذين يلحظ الشعب لديهم أرضية صالحة لوضع ثقته فيهم. ويولي الدستور اهتماماً خاصاً جداً لهذا الهدف. فباستبعاده من هم دون الخامسة والثلاثين عن المنصب الأول، واستبعاد من هم دون الثلاثين من شغل المنصب الثاني – يحصر الناخبين في أشخاص أتاح الوقت للمواطنين أن يحكموا في أمرهم، من ناحية أنهم لن يكونوا عرضة لأن ينخدعوا بمظاهر النبوغ، والوطنية البراقة التي هي كالشهب العابرة كثيراً ما تخدع الناظر إليها وتبهره. إذا كانت هذه الملاحظة التي تقول: الملوك الحكماء يخدمهم على الدوام وزراء مقتدرون، مقبولة لها أساس، فمن حقنا أن نجادل فنقول: لما كان المجلس المعني يتألف من ناخبين منتقين – فهو يملك، وبدرجة أكبر مما يتوفر للملوك، وسيلة للحصول على معلومات دقيقة وشاملة بخصوص الأشخاص والأخلاق، لذلك فإن تعييناته سوف تحمل، على الأقل، سمات التبصر وحسن التقدير. والحصيلة التي يتأتى استنتاجها بصورة طبيعية من هذه الاعتبارات هي: أن الرئيس والشيوخ المختارين بهذه الطريقة سوف يكونون دائماً من الأشخاص الذين يفهمون مصالحنا الوطنية أفضل من غيرهم، سواء فكروا فيها من حيث الولايات التي قدموا منها، أو من زاوية الدول الأجنبية، وسيكونون أقدر على تحسين هذه المصالح من غيرهم، وممن يوحي اشتهارهم بالنزاهة قدراً من الثقة والاطمئنان. إلى مثل هؤلاء الرجال يمكن العهدة بسلطة عقد المعاهدات بأمان.
ومع أن الحاجة الماسة إلى النظام، عند تصريف أي عمل، معروف للجميع ويقدرها الجميع فإن الأهمية البالغة للنظام في الشئون الوطنية لما يتم غرسها بقدر كاف في أذهان الجمهور. فالذين يرغبون في إيلاء السلطة المطروحة للبحث، إلى مجلس شعبي يتألف من أعضاء يجيئون ويذهبون على الدوام في تعاقب سريع – لا يفطمون إلى أن مجلساً كهذا لا مناص من أن يكون غير أهل لبلوغ تلك الأهداف العظيمة التي يتوجب على أعضائه دوام التفكير فيها في جميع علاقاتهم وظروفهم، والتي لا يمكن الاقتراب منها وإنجازها إلا من خلال قوانين، لا تتطلب المواهب فحسب، بل تحتاج معلومات مضبوطة أيضاً، ووقتاً كافياً في كثير من الأحيان، كيما تنسجم وتعمل معاً. لقد كانوا من الحكمة، إذن، من جانب المؤتمر أن يشترط، إن سلطة عقد المعاهدات لا يكفيها أن تولى إلى رجال أمناء ومقتدرين فحسب بل توجب عليهم الاستمرار في مواقعهم لفترة كافية تجعلهم على إطلاع تام بهمومنا الوطنية، كي يضعوا، ويأتوا من عندهم بنظام يقوم بترتيب تلك المعاهدات. إن فترة الخدمة المحددة قد جعلت تكفي لمنحهم فرصة لتوسيع معلوماتهم السياسية لدرجة عظيمة، ولجعل الخبرة المتراقبة لديهم أكثر فأكثر نفعاً لوطنهم. ولم يتكشف المؤتمر عن حكمة قليلة حين مهد لتكرار انتخابات الشيوخ بطريقة تقضي على متاعب النقل الدوري لتلك الشؤون الكبيرة بكاملها إلى رجال جدد؛ إذ أنه بتركه قدراً معقولاً من الثبات للأشخاص السابقين، من حيث المكان والوحدة والنظام، أبقى الاستمرار الثابت في المعلومات الرسمية ليحافظ عليه.
هنالك نفر قليل ما يقبلون أن يتم تنظيم شئون التجارة والملاحة من قبل نظام تشكل بحذر، وسار بكل ثبات، ولا يقبلون أن كلاً من اتفاقياتنا وقوانينا يجب أن تتجاوب معه وتعقد لتحسينه. وهناك مترتبات كثيرة على إدامة هذا التجاوب والانسجام والعناية بذلك وسيشهد الذين يتفقون مع صدق هذا الوضع، وبعد ذلك يعترفون أنه وضع تأتى لنا الحصول عليه من خلال جعل موافقة مجلس الشيوخ على الاتفاقيات والقوانين أمراً ضرورياً.
ونادراً ما يحدث في مفاوضات الاتفاقيات، مهما كانت طبيعتها، ألا تتطلب السرية الكاملة والإنجاز المباشر. وهناك حالات يمكن فيها الحصول على أعظم قدر مفيد من الذكاء إذا كان الأشخاص الذين يملكونه بمنجاة من مخاوف الافتضاح. إذ سوف تعمل المخاوف عملها لدن أولئك الأشخاص سواءً تم تحريكهم بفعل الارتزاق أو الدوافع الودية الصديقة. ولا شك أن هناك عدداً كبيراً من أفراد هاتين الفئتين يطمئنون إلى كتمان الرئيس، ولا يثقون بالسرية في مجلس الشيوخ، فكيف بذلك في مجلس عمومي واسع! لقد أحسن المؤتمر فعلاً، إذن، في توزيعه سلطة عقد المعاهدات على هذا الشكل، فرغم أن الرئيس في قيامه بذلك إنما يتصرف بناء على نصيحة وموافقة مجلس الشيوخ لكنه يظل بمقدوره أن ينظم عمل التحريات بالطريقة التي تستلزمها الحكمة في تدبير الأمور.
لقد أدرك الأشخاص الذين حولوا اهتمامهم إلى دراسة شؤون الناس أن هناك فترات مد وجزر تمر بهم، وأن تلك الفترات غير منتظمة، لا من حيث دوامها ولا قوتها، ولا اتجاهها، بل إنها نادراً ما تقع بالطريقة نفسها أو المقياس نفسه مرتين متتاليتين. فتبصر فترات المد والجزر هذه، والاستفادة منها في الشئون الوطنية – هو مهمة الذين يرئسون تلك الشئون. ويخبرنا الذين توفرت لديهم خبرة كافية حول هذا الأمر أنه كثيراً ما تحصل مناسبات تكون فيها الأيام، بل الساعات، ثمينة للغاية. إن خسارة معركة، وموت أمير، وإزاحة وزير أو الظروف الأخرى التي تتدخل لتغيير الموقف الآني ومظهره، ربما قلبت أفضل مدّ إلى اتجاه معاكس لما نرغب فيه. وكما في ميدان المعركة، كذلك في الوزارة، هناك لحظات يجب اقتناصها لحظة تمر، ومن حق الذين يتولون الرئاسة في كلا الموقعين أن يُترك لهم إمكان تحسينها. إننا كثيراً ما عانينا حتى الآن، وبصورة رئيسية – من انعدام السرية لدينا وغياب الإنجاز، حتى إن الدستور كان سيظل ناقصاً بصورة لا عذر فيها لو لم يُبذل اهتمام كاف بهذه الأهداف. فالأمور التي تتطلب أشد درجات السرية في شئون المفاوضات ونقل المعلومات هي أمور تحضيرية وإجراءات مساعدة لا تعتبر في غير النظرة الوطنية شأناً مهماً أكثر من كونها تسهّل بلوغ أهداف التفاوض ذاته. ولن يجد الرئيس أية صعوبة في الوفاء بكل ذلك، لكن إذا ما وقع أي حادث يستلزم نصيحة مجلس الشيوخ وموافقته، فإن للرئيس أن يجمع الأعضاء في أي وقت. وهكذا نرى أن الدستور يشترط في مفاوضاتنا لعقد المعاهدات أن تتوفر فيها كل ميزة يمكن استقاؤها من المواهب والمعلومات والنزاهة والاستقصاءات الدقيقة. كل هذا في جانب، ومن السرية وتوصيل المعلومات في الجانب الآخر.
غير أن هذه الخطة، شأن معظم الخطط الأخرى التي تم عرضها تلقى اعتراضات تجد من يتحمس لها.
فالبعض يبدي نفوراً منها لا على أساس وجود أخطاء أو مساوئ فيها، بل لأن للمعاهدات بعد عقدها قوة القانون، فمن ثم لا يجوز أن تتم إلا على يدي رجال مخوّلين صلاحية تشريعية لفعل ذلك. يبدو أن هؤلاء السادة لا يعتبرون أحكام القضاء التي تصدرها محاكمنا، ولا المهمات التي يكلف بها من يتولى السلطة فينا صالحة كما أنها ملزمة لجميع الأشخاص الذين تتعلق بهم، كما هي القوانين التي يقرها مجلس التشريع الفدرالي في البلاد. إن جميع الأعمال الدستورية التي يترتب عليها النفاذ، سواءً حصلت في الدائرة التنفيذية أو الدائرة القضائية تتمتع بالقوة القانونية والإلزام وكأنها صادرة عن مجلس التشريع؛ ومن ثم، ومهما كان الاسم الذي يعطي لسلطة عقد المعاهدات، وهما كانت درجة إلزاميتها بعد عقدها – فالأكيد أن الشعب، وبكل سداد، يعهد بالسلطة إلى هيئة متميزة عن هيئة التشريع وعن التنفيذ وعن القضاء. ولا يلزم من ذلك أبداً أن المواطنين وقد أعطوا سلطة وضع القوانين إلى التشريع فإن عليهم أيضاً أن يعطوا أعضاءها سلطة لأن يفعلوا كل شيء آخر من أعمال السيادة التي تلزم المواطنين ويتأثرون بها.
وهناك آخرون، تجدهم راضين عن أن تتم المعاهدات بالطريقة المقترحة، لكنهم يمانعون في كون تلك المعاهدات هي القوانين العليا في البلاد. وهم يصرّون ويعترفون أنهم يعتقدون أن المعاهدات، مثلها مثل بقية أفعال المجلس، يجب أن تكون قابلة للإلغاء حسب الطلب. وتبدو هذه الفكرة جديدة وغريبة على البلاد. وهذا أمر لا يهم كثيراً. فالأخطاء الجديدة شأن الحقائق الجديدة كثيراً ما تبرز. ويُحسن هؤلاء السادة صنعاً لو فكّروا في أن "المعاهدة" ما هي إلا اسم آخر بديل للفظة "صفقة"، وسيكون من المستحيل العثور على أمة يعقد مفاوضوها صفقة معنا تكون ملزمة لهم بصورة مطلقة، وملزمة لنا فقط طالما نرى الالتزام بها مناسباً لنا. فعلى من يضعون القوانين فينا، دون شك، أن يقوموا بتعديل أفكار هؤلاء، أو يحذفوها. نعم، لا ينكر أحد أن من يعقدون المعاهدات قد يغيرونها أو يلغونها؛ لكن علينا أن نفطن إلى أن المعاهدات لا تنعقد من قبل طرف واحد لا غير، بل من طرفي المتعاقدين جميعاً؛ وبالتالي، فإنه لما كانت موافقة كليهما ضرورية لعقدها أول الأمر بات ذلك ضرورياً أيضاً عند تغييرها أو إلغائها. إذن، فإن الدستور المقترح لم يوسع إلزام المعاهدات على الأقل. لقد ظلت ملزمة تماماً كما كانت، وعادلة تماماً، وإلى أبعد مما يصله التشريع قانوناً في الوقت الحاضر، وفي المستقبل، وفي ظل أي شكل من أشكال الحكم.
وعلى كل حال، يجوز أن توجد الغيرة المفيدة في الجمهوريات، لكن شأنها شأن المرارة، فحينما تكون في حدودها الطبيعية نجدها تضبط سياسة الجسم، أما حين تنشط أكثر مما ينبغي، فإن عيني الطرفين، المريض والغيور، تغدو معرضة لأن تنخدع بالمظاهر الخادعة التي يتركها ذلك المرض على الأشياء المجاورة. ولهذا السبب، ربما تنشأ المخاوف لدى البعض من أن يعقد الرئيس ومجلس الشيوخ معاهدات دون نظر كاف إلى مصلحة جميع الولايات، كما يرى آخرون أن الثلثين سوف يضغطون على الثلث المتبقي. وهم يتساءلون عما إذا كان أولئك السادة قد جُعلوا مسئولين بالقدر الكافي عن تصرفهم، وهل يمكن معاقبتهم إذا تصرفوا بفساد، ويقولون: ترى لو عقدوا معاهدات في غير صالحنا، كيف لنا أن نتخلص منها؟
لما كانت جميع الولايات متساوية في التمثيل في مجلس الشيوخ، ومن قبل أشخاص هم الأقدر والأكثر رغبة في رعاية مصالح مواطنيهم – فسوف يكون لهم قدر متساو من النفوذ في ذلك المجلس، وبخاصة حين يستمرون في إبداء عنايتهم عند تعيين أشخاص مناسبين، ويصرون على حضور الجلسات في أوقاتها بانتظام. وبقدر ما تأخذ الولايات المتحدة (الاتحاد) سمة وطنية وشخصية وطنية يظل الخير العام موضع اهتمام أكثر فأكثر. ولا بد أن تكون الحكومة حكومة ضعيفة حقاً إذا نسيت إن خير المجموع لا يمكن تحسينه وزيادته إلا عبر زيادة الخير لكل من الأطراف الذين يتألف منهم ذلك المجموع. ولن يكون بمقدور الرئيس ولا مجلس الشيوخ أن يعقدوا أية اتفاقية تتيح لهم ألا يُلزموا بها أنفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم، ويتأثروا بها بقدر متساو مع بقية أفراد المجتمع؛ وحيث أنهم ليس لهم مصالح خاصة متميزة عن تلك التي للأمة فإنهم لن يخضعوا لأي إغراءات تدفعهم إلى إهمال مصالح الأمة.
أما فيما يخص الفساد فإن القضية ليست قضية افتراض لإمكان حدوثه. ولا بد أن يكون المرء إما منحوساً في تعاطيه مع الناس، أو أن له قلباً شديد الحساسية لتلك الانطباعات، قبل أن يفترض إمكان كون الرئيس وثلثي مجلس الشيوخ مستعدين لأن يتصرفوا مثل هذا التصرف غير الجدير بالاحترام. إن الفكرة فظيعة جداً، بل تثير الكدر حين تخطر في البال. ولكن، إذا صدف أن وقعت، فإن الاتفاقية التي حصلنا عليها، شأن جميع التعاقدات المزورة الأخرى، تكون باطلة ولاغية حسب قوانين جميع الأمم.
أما بخصوص مسئولية الرئيس وأعضاء الشيوخ في تلك الحال، فمن الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن زيادتها عما هي. إن كل اعتبار وقيمة تحرك العقل الإنساني كالشرف والإيمان وحسن السمعة والضمير وحب الوطن والتعاطف العائلي والولاء.. كل هذه تقدم ضماناً لإخلاصهم. ومجمل القول: وحيث أن الدستور قد بذل أقصى حرص على أن يكونوا رجالاً موهوبين، أصحاب نزاهة، فإن لنا الحق في الاطمئنان إلى أن الاتفاقيات التي يعقدونها سوف تكون مفيدة ما دامت جميع الظروف التي يمكن التفكير فيها تجعلها كذلك، وطالما أن العقوبة والخوف والوقوع في العار تفعل فعلها فتثير دافعاً إلى السلوك الخيّر المتوفر تماماً من خلال البند المتعلق بموضوع العقوبات.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 462-468.

العودة للصفحة الرئيسية