الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 19
جيمس ماديسون والكسندر هاملتون
James Madison & Alexander Hamilton
8 ديسمبر، 1787


إلى أهالي ولاية نيويورك:
إن نماذج الكونفدراليات القديمة التي أوردت ذكرها في الورقة السابقة لا تنفذ بها مصادر الدراسة التجريبية هذا الموضوع فهناك مؤسسات حالية تقوم على مبدأ مشابه وتستحق اعتباراً خاصاً أيضاً. وأولى هذه القائمة التي تطرح نفسها هي الكتلة الجرمانية.
في العهود المبكرة من المسيحية، كانت تحتل ألمانيا سبع أمم ليس لها رئيس مشترك. وكان الفرنجة إحدى هذه الأمم. وبعد أن تغلبوا على الغاليين، أسسوا مملكة أخذت اسمها منهم. وفي القرن التاسع قاد شارلمان، ملك الفرنجة المحارب قوته الظافرة في كل اتجاه، وغدت ألمانيا جزءاً من ممتلكاته الشاسعة. وفي التقسيم الذي تم على أيدي أبنائه، تم جعل القسم الألماني من الممتلكات إمبراطورية مستقلة وحدها. وكان شارلمان وأحفاده المباشرون يملكون قلب الإمبراطورية كما يحوزون شعار الإمبراطورية والسلطة الإمبراطورية أيضاً. لكن الأتباع الكبار الذين كانت ملكياتهم قد أصبحت وراثية، والذين شكلوا مجالس الدايات التي لم يلغها شارلمان – نزعوا نير السيطرة تدريجياً وتقدموا إلى الاستقلال والسيادة في التشريع. ولم تكن السيادة الإمبراطورية كافية لكبح أولئك الأتباع الأقوياء، ولا للحفاظ على الوحدة والاستقرار في الإمبراطورية وكانت أعنف الحروب الفردية الشرسة بين أولئك الأتباع ترافقها كل أنواع النكبات، وتظل مستعمرة فيما بين مختلف الأمراء والولايات. كانت سلطة الإمبراطور عاجزةً عن فرض النظام العام، فتضاءلت تدريجياً حتى تلاشت واستحالت فوضى عامة سادت البلاد في الفترة الطويلة التي امتدت حتى وفاة آخر إمبراطور من الأسرة النمساوية. وفي القرن الحادي عشر كان الأباطرة يتمتعون بالسيادة الكاملة؛ أما في القرن الخامس عشر فلم يكونوا أكثر من رموز وزينات للسلطة.
من ثنايا هذا النظام الإقطاعي، والذي يحوي عدداً من الملامح الكونفدرالية، نشأ النظام الفدرالي الذي يشكّل الإمبراطورية الجرمانية. والسلطات فيها منوطة بمجلس ديات يمثل الأعضاء الذين يشكلون الكونفدرالية، وفي الإمبراطور، الذي هو الموظف الأكبر التنفيذي، وله حق رفض المراسيم التي يصدرها مجلس الديات، وفي الغرفة الإمبراطورية والمجلس الأولي، وفي موظفين قضائيين واحدهما (تربيون) لهما السلطة القضائية العليا في المعضلات التي تهم الإمبراطورية، والتي تنشب بين أعضاء الكونفدرالية ذاتها.
ويملك مجلس الديات صلاحية عامة للتشريع لجميع الإمبراطورية، وحق إعلان الحرب والسلام وعقد التحالفات، وتقدير الأنصبة من الجنود والأموال، وبناء القلاع، وتنظيم النقد، وقبول أعضاء جدد، وإخضاع الأعضاء المتمردين من الكونفدرالية للإقصاء من عضويتها.. وبذلك تنحط قيمة العضو ويتم تجريده من حقوق السيادة لديه كما يتم تجريده من حقوق السيادة لديه كما يتم تغريم ممتلكاته. وأعضاء هذه الكونفدرالية ممنوعون صراحة من الدخول في ارتباطات معادية للإمبراطورية؛ ومن حق فرض مكوس ورسوم جمركية على تجاراتهم المتبادلة فيما بينهم دون موافقة الإمبراطور ومجلس الديات. كذلك هم ممنوعون من تغيير قيمة عملاتهم، ومن إيقاع ظلم من واحدهم على الآخر، كما يحرم علينا تقديم أي عون أو ملاذ للمخلين بالأمن العام. ويتم الحرم أيضاً ضد أي عضو يدنس أياً من هذه القيود. وأعضاء الديات بحكم عضويتهم هذه، يخضعون في جميع الحالات لأن تتم محاكمتهم من قبل الإمبراطور ومجلس الديات. اما بصفتهم الفردية فتتم محاكمتهم من قبل مجلس الأولي، والمجلس الإمبراطوري الخاص
وحقوق الإمبراطور عديدة، وأعظمها أهمية: حقه الشامل في أن يقدم مقترحات إلى مجلس الديات، وفي إبطال قرارته، وتسمية السفراء ومنح الألقاب والأوسمة، وفي تعبئة المنتخبيات الشاغرة، كذلك حقه في إنشاء الجامعات، وفي منح امتيازات لا تضر بولايات الإمبراطورية، وفي تسلم وصرف الخزينة العامة، وبصورة عامة، في الإشراف العام على السلامة العامة. وفي حالات معينة يشكل المنتخبون مجلساً خاصاً للإمبراطور. ومن حيث صفته كإمبراطور، فهو لا يملك أي أرض له في الإمبراطورية، ولا يتسلم أي دخل يعيش منه شخصياًًً، لكن وارداته وممتلكاته، من حيث نوعها وصفتها، تجعله واحداً من أعاظم الأمراء قوة في أوروبا.
من هذا الإستعراض للسلطات الدستورية لدى الممثلين وكرئيس لهذه الكونفدرالية، فإن الإفتراض الطبيعي سيكون أن الكونفدرالية تشكل استثناء للصفة العامة للنظم القريبة منها.. ليس هنالك ما هو أبعد عن الحقيقة والواقع من ذلك. فالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الكونفدرالية: في أن الإمبراطورية تجمع سيادات، وأن مجلس الديات ممثلون لحكومات ذات سيادة، وفي أن القوانين توجه إلى أسياد مستقلين – يجعل الإمبراطورية جسداً بلا أعصاب، غير قادرة على ضبط الأعضاء فيها، وغير أمينة ضد الأخطار الخارجية، ومضطربة على الدوام بفعل خمائر الفوضى في أحشائها.
إن تاريخ ألمانيا هو تاريخ حروب بين الإمبراطور والأمراء والولايات، تاريخ حروب فيما بين الأمراء والولايات أنفسهم، تاريخاً من شهوانية القوي وإكراه الضعيف، ومن تدخلات المكائد الخارجية، من تجاهل ضرورات الأفراد وحيازات الأموال، أو الوفاء بذلك بصورة جزئية، وتاريخاً من محاولات لفرضها بالقوة، جميعها إجهاضية، أو تجري بالمذابح والتخريب، شاملة البرئ والمجرم، لا رحمة فيها على العموم، بل الفوضى والتعاسة.
وفي القرن السادس عشر، كان يُرى الإمبراطور مع جزء من إمبراطوريته يقف إلى صفه، منهمكاً في نزاع ضد الأمراء الآخرين والولايات الأخرى. وفي إحدى هذه المصادمات، اضطر الإمبراطور نفسه إلى الفرار هرباً من المعركة، بل أوشك أن يقع أسيراً في يدي منتخب سكسونيا. ولقد ثار الملك الأخير لبروسيا أكثر من مرة ضد سيده الإمبراطور، وأثبت بصورة عامة أنه أكثر من ند له. كانت التناقضات والحروب فيما بين أعضاء الكونفدرالية أنفسهم شبه متواصلة، حتى إن حوليات ألمانيا ملأى بصفحات سفك الدماء التي تؤرخ تلك الحروب. وقبل سلام وستفاليا، كان قد تم تخريب ألمانيا بفعل حرب الثلاثين سنة، حيث وقف الإمبراطور مع نصف إمبراطوريته في صف، ووقفت السويد مع النصف الآخر من الإمبراطورية في الصف المقابل. وفي نهاية الأمر تم التفاوض من أجل السلام، وأملته الدول الأجنبية، وتشكل شروطه التي كانت الدول الأجنبية طرفاً فيها جزءا أصيلاً من الدستور الجرماني حالياً.
لو حدث، بفعل أي طارئ، أن تغدو الأمة أكثر اتحاداً، بحكم ضرورة الدفاع عن النفس، لكان وضعها سيكون داعياً إلى الشفقة أكثر. فالاستعدادات الحربية كان يجب أن تسبقها مباحثات مضنية كثيرة، تنبع من الغيرة والكبرياء ووجهات النظر المنفصلة، والإدعاءات المتنازعة لدى الهيئات المستقلة، إلى درجة أنه قبل أن يحسم الديات أمره ويقرر الترتيبات اللازمة، يكون العدو قد بلغ ميدان المعركة؛ وقبل أن تكون الكتائب الفدرالية مستعدة لخوض المعركة تكون قد انسحبت إلى مقّرّاتها الشتوية.
والمجموعة الصغيرة من الكتائب الوطنية التي يكون قد تقرر أنها ضرورية في أيام السلام، يتم إبقاؤها ناقصة الفعالية، أجورها متدنية، وآفة الأحقاد المحلية مستشرية فيها، ولا سند لها إلا مساهمات غير منتظمة الأداء ولا متناسقة تُدفع إلى الخزينة العامة.
إن استحالة حفظ النظام ونشر العدالة بين أولئك الرعايا ذوي السيادة قد خلقت تجربة توزّع الإمبراطورية إلى تسع أو عشر حلقات أو مقاطعات، وإلى إعطائها نظاماً داخلياً غير متجانس، وإلى تحميلها عبء تنفيذ القانون عن طريق الحرب ضد الأعضاء غير المنضبطين والخارجين عن الطاعة. ولقد خدمت هذه التجربة فقط، لإعطاء صورة أكثر وضوحا عن الرذيلة الأصيلة في الدستور. فكل حلقة هي صورة مصغرة لمساوئ ذلك الوحش السياسي. فهي إما أن تفشل في تحقيق مهماتها، أو تقوم بها لكن مع الخراب والدمار الذي يرافق الحرب الأهلية. وأحياناً ما تكون حلقات بكاملها هي الخاطئة، وعند ذاك تزيد تلك الحلقات في الأذى الذي تم إنشاؤها لمعالجته.
ولنا أن نخرج بحكم ما من هذا النموذج من العدوان العسكري من عينة يقدمها ثوانوس. في دوناويرث، وهي مدينة حرة، ومدينة إمبراطورية من مقاطعة سوابيا، كان أسقف دير القديس كروا يتمتع ببعض حصانات أبقيت له. وفي ممارسته لهذه الحصانات، وفي إحدى المناسبات العامة، تم توجيه أذى لشخصه على يدي أهل المدينة. وترتّب على ذلك أن وضعت المدينة في موقف التمرد على الإمبراطورية، وصدرت بحقها عقوبة الحرم. ومع أن دوق بافاريا، منتخب في مقاطعة أخرى، فقد تم تعيينه لتطبيق ذلك الحرم. وسرعان ما ظهر ذلك المنتخب بقواته أمام المدينة بفيلق من عشرة آلاف جندي من عساكره. يومذاك وجد الرجل الفرصة مناسبة له، كما كان يضمر من قبل، ومنذ البداية، فجدد دعواه بأن المدينة كانت قد نزعت من ممتلكات أجداده القدامى. ومن ثم استولى عليها باسمه هو، وجرد أهلها من السلاح وعاقب السكان جميعاً، وألحق المدينة بممتلكاته الخاصة من جديد.
وقد يثار سؤال: ما الذي منع هذه المدينة غير المترابطة من التفكك إلى أجزاء مبعثرة؟ والجواب واضح: إنه ضعف معظم الأعضاء فيها، وكونهم غير راغبين في فضح أوضاعهم أمام القوى الأجنبية؛ وضعف معظم الأعضاء الرئيسيين فيها بالمقارنة مع معظم قوة الدول المحيطة بها؛ والوزن الكبير والنفوذ العظيم الذي يتمتع به الإمبراطور بفضل ممتلكاته الخاصة والوراثية؛ والمصلحة التي يحس بها في الحفاظ على نظام هو على صلة وثيقة بعائلته وكبريائها، ويجعله الأمير الأول في أوروبا كلها. إن هذه الأسباب تساند اتحاداً ضعيفاً، وخطراً.. هذا فيما أن الطبيعة العدوانية المرافقة لطبيعة السيادة، والتي يقويها الزمن باستمرار – تحول دون الإصلاح مهما كانت يقوم على أساس سليم. ولا يجوز أن يتصور أحد، حتى لو أمكن تخطي هذه العقبة، أن تسمح القوى المجاورة للإمبراطورية بقيام ثورة فيها، من شأنها أن تهبها قوة وبروزاً هو من حقها تماماً فقد كانت الأمم الأجنبية تعتبر نفسها ومنذ زمن طويل، ذات علاقة بالأمر، وتهمها التغيرات التي جاءت بها الأحداث في هذا الدستور. كما أنها في مناسبات متنوعة قد تخلت عن سياستها في إطالة عمر الفوضى والضعف في الإمبراطورية أيضاً.
وإذا كانت لا تزال تعوزنا أمثلة مباشرة للكونفدراليات، فها هي بولندا، بصفتها حكومة تقوم على سيادات محلية. وهي مثال جدير بالملاحظة. وليس هناك حجة يمكن إيرادها فتكون أكثر إثارة من النكبات التي نبعت من مثل تلك المؤسسات فبقدر عدم صلاحها لحكم نفسها، والدفاع عن نفسها، ظلت بولندا منذ زمن طويل تحت رحمة جيرانها الأقوياء، الذين شعروا آخر الأمر بالرحمة تجاهلها فأراحوها من تحمل عبء ثلث سكانها وأراضيها.
ولا يكاد الترابط بين الكانتونات السويسرية يرتقي إلى مستوى الكونفدرالية، مع أنه يورد أحياناً كمثال على الاستقرار للمؤسسات الكونفدرالية.
ليس للكانتونات السويسرية خزينة مشتركة، ولا جيش مشترك حتى في أيام الحرب، ولا عملة مشتركة، ولا تشريع قانوني مشترك، ولا أية علاقة مشتركة أخرى من علامات السيادة.
لقد بقيت الكانتونات مرتبطة بحكم موقعها طوبوغرافياً، وضعف كل واحدة منها بمفردها، وعدم أهميتها؛ وبحكم الخوف من جيران أقوياء، خضعت لأحدهم في السابق؛ وبفضل أصول القناعة بين شعب له عاداته البسيطة والمنسجمة فيما بينها؛ وبفعل مصلحتهم المشتركة في بقاء ممتالكاتهم مستقلة، وبفعل العون المتبادل الذي يبذلونه عند الحاجة إلى إخضاع الإضطرابات والثورات؛ وهو عون يغدو مفروضاً، وكثيراً ما تدعو إليه الحاجة ويتم بذله حينذاك. كذلك بفعل الحاجة إلى حق منظم ودائم لفض النزاع والخلافات بين الكانتونات. وهذا الحق يوجب على الطرفين اللذين هما على اختلاف أن يختار كل منهما أربعة محكّمين (أو قضاة) من الكانتونات المحايدة في النزاع، وعند عدم اتفاق هؤلاء يختارون من بينهم حكماً فاصلاً. وبعد أن يحلف ذلك المحكّم الإداري قسماً بعدم التحيز، يصدر حكماً نهائياً، يكون على جميع الكانتونات أن تلتزم به وتنفذه. ويمكن تقييم كفاءة هذا التنظيم من خلال عبارة ترد في معاهدة 1683 بين الكانتونات وبين فكتور أماديوس أمير سافوي، وفيه يلزم الأمير نفسه أن يتدخل كوسيط إصلاحي فيما بين الكانتونات، وأن يستخدم قوته، إذا لزم الأمر، ضد الطرف الخارج عن الطاعة.
وبقدر تفرّد وضع هذه الكانتونات بقدر ما تسمح المقارنة معها بوضع الولايات المتحدة، فهو يؤيد المبدأ الذي نزمع تقريره. ومهما كانت الفعالية والكفاءة التي يحوزها الاتحاد في الحالات العادية، فإنه يبدو أنه أخفق حالما برز سبب للخلاف يصلح لتجربة قوته. فالخلافات القائمة حول موضوع الدين، والتي أشعلت منازعات دموية وعنيفة في ثلاث مناسبات، قد جعلت من الممكن القول بأنها فصمت العصبة. فقد صار للكانتونات الكاثوليكية والأخرى البروتستانتية منذ ذلك التاريخ مجالس الديات الخاصة بها، حيث تتم فيها تسوية جميع المصالح والقضايا الهامة، مبقية لمجلس الديات العام أعمالاً أخرى غير العناية بالمشكلات المشتركة.
وكان لذلك الانفصال نتيجة أخرى، جديرة بالاهتمام، فقد أنتج تحالفات متضادة مع القوى الخارجية، بين بيرن، رئيسة تجمع الكانتونات البروتستانتية، مع الأقاليم المتحدة، وبين لوزان، رئيسة التجمع الكاثوليكي، مع فرنسا.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 134-140.

العودة للصفحة الرئيسية