الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 18
جيمس ماديسون والكسندر هاملتون
James Madison & Alexander Hamilton
7 ديسمبر، 1787


إلى أهالي ولاية نيويورك:
بين كونفدراليات التاريخ القديم كانت الأجدر بالاعتبار هي الجمهوريات الإغريقية التي تجمعت تحت إدارة مجلس المفوّضين. وبين أفضل الروايات المنقولة من هذه المؤسسة الشهيرة أنها كانت تحمل شبهاً بناء للكونفدرالية المعاصرة في الولايات الأمريكية.
ففيها احتفظ الأعضاء بطبيعة الولايات المستقلة ذات السيادة وكان لكل منها صوت متكافئ مع غيره في المجلس الفدرالي، ولذلك المجلس سلطة عامة لأن يقترح ويقرر ما يراه ضرورياً للصالح العام لبلاد الإغريق؛ لأن يعلن الحرب ويباشرها؛ وليحسم آخر الأمر جميع المنازعات فيما بين الأعضاء، ويفرض الغرامة على الطرف المعتدي منها؛ كما له أن يسخر جميع قوات الفدرالية ضد العضو العاصي، وأن يقبل انضمام أعضاء جدد أيضاً. وكان المشرفون على المجلس أو المفوضون "الأمفيكتيون "Amphictyons هم حراس الدين وخفراء الكنوز الهائلة في هيكل "دلفوس" حيث كان لهم الحق في حسم المنازعات بين السكان، الذين يأتون لاستشارة الموحى. وكشرط آخر يضمن فعالية السلطات الفدرالية، كان أولئك المشرفون يقسمون اليمين على الحفاظ على المدن المتحدة والدفاع عنها، وأن يعاقبوا من يخلون بذلك القسم، وينفذوا العقوبات على من يدنسون الهيكل.
ومن الوجهة النظرية وعلى الورق، كان جهاز السلطات ذاك يبدو كافياً تماماً للوفاء بالأغراض العامة قاطبة. وفي عدة أمثلة محسوسة كانت تلك السلطات تفوق الصلاحيات المدرجة في بنود الكونفدرالية. وكان المفوضون يتسلحون بخرافات ذلك العصر، وهي إحدى الآليات الرئيسة التي بها كان يصان الحكم؛ فقد كان لهم سلطة يعترف بها الجميع لأن يستخدموا الردع ضد المدن المتمردة، وكانوا ملزمين بحكم القسم أن يطبقوا تلك السلطة في الحالات الضرورية.
وأياً كان الحال، فقد جاء التطبيق العملي مختلفاً جداً عن الفكر النظري، فالصلاحيات، مثلها مثل صلاحيات الكونغرس الحاضر، كان يقوم بها مفوضون تعينهم المدن بصفتها القوة السياسية في الحل؛ وتشرف عليها بنفس ذلك الاعتبار. ومن ثم جاء الضعف، والفوضى، وأخيراً الدمار لتلك الكونفدرالية. فبدلاً من إبقاء الأعضاء في الكونفدرالية في حال من التخوف والخضوع، نجدهم قد مارسوا الطغيان، بالدور فيما بينهم، ضد بقية الأعضاء الأضعف منهم فقد ظلت أثينا، كما يخبرنا "ديموسشينس"، هي الحكم المتحكم في بلاد الإغريق طيل ثلاث وسبعين سنة. ثم عقبها أهل لاكديمونيا (إسبارطة) فسادوا تسعاً وعشرين سنة، وفي فترة لاحقة، بعد معركة لكترا جاء دور أهل طيبة في السيادة.
وقد حدث أكثر من مرة، كما يروي المؤرخ بلوتارك، أن أخاف مفوضو المدن الأقوى مفوضي المدن الأضعف وأفسدوهم، فخضعت أحكام المجلس وقرارته لصالح الطرف الأقوى.
وحتى في معمعة الحرب الدفاعية والشديدة الخطر ضد بلاد فارس ومقدونيا، لم يتصرف الأعضاء مطلقاً بانسجام، وكان بعضهم معدوم، القليل أو الكثير منهم، دائماً مطايا أو مستأجرين للعدو المشترك للبلاد. فكانت فترات الحرب الخارجية ملأى بالتقلبات والانحرافات والمذابح.
وبعد انتهاء الحرب ضد أحشويرش (اكسير كسيس) اتضح أن أهل لاكديمونيا قد طلبوا أن يطرد من التحالف عدد من المدن جزاء لها على الدور غير المخلص الذي لعبته في الحرب. وحين وجد الأثينيون أن أهل لاكديمونيا سيخسرون أعواناً اقل عدداً جراء هذا الإجراء مما سيسخرونه هم، وبذلك يغدون سادة القرارات العامة في المجلس – عمدوا (الأثينيون) إلى معارضة ذلك المطلب بكل عنف وأفشلوا تلك المحاولة. وتثبت هذه النبذة من التاريخ على الفور عدم كفاءة الاتحاد، إذ أن الطموح والغيرة لدى الأعضاء الأقوى كانت طرفاً فيه، قبالة التبعية والأحوال المتدهورة عند الأعضاء الآخرين. ومع أن الأعضاء الأصغر كان لهم الحق بموجب الجانب النظري في نظامهم، أن يدوروا بكرامة وإعظام متساو حول المركز المشترك للحلف، نجدهم يصبحون في الواقع، أقماراً يدورون في فلك القطب الرئيسي.
ويقول الأب ميلو MILOT، لو كان الإغرق على قدر من الحكمة بقدر ما كان عليه من الشجاعة، لكانت وعظتهم التجربة والممارسة بضرورة إقامة اتحاد أوثق مما فعلوا، ولأفادوا أنفسهم من السلام الذي عقب ظفرهم على سلاح فارس فقاموا بمثل ذلك الإصلاح آنذاك. وبدلاً من هذه السياسة الواضحة، انتفخت كل من أثينا وإسبارطة بالانتصارات والأمجاد التي اكتشفتاها فغدتا أول متنافستين، ثم عدوتين فيما بعد؛ وألحقتا ببعضهما من الأذى أكثر مما عانتا من أحشويرش، ثم انتهت غيرتهما المتبادلة، ومخاوفهما ومشاعر الكراهية بينهما، والأضرار التي ألحقتاها ببعضهما، إلى صورة حرب البلوبونيز الشهيرة، والتي بدورها انتهت بالخراب واسترقاق الإثينيين الذين بادروا بها.
وحيث أن الحكومة الضعيفة، حين لا تكون في حرب مع غيرها، تظل معرضة على الدوام إلى التحريض والاضطراب بفعل المنازعات الداخلية، فإن ذلك لا يخفق أبداً في أن يجلب لها نكبات جديدة من الخارج. لقد فلح أهل فوقيا الضعيفة بعض الأراضي المحرمة التابعة لهيكل أبولو، وقام مجلس المفوضين في الحلف، خضوعاً للفكر الأسطوري في ذلك العهد، وفرض عليهم غرامة بصفتهم قد دنسوا ما هو مقدس. ولما كان أهل فوقيا ضاغنين على أثينا وإسبارطة، فقد رفضوا الخضوع لذلك الحكم. وقام أهل طيبة، مع غيرهم من المدن الأخرى، وتعهدوا بصيانة سلطات المفوضين والتزموا أن يثأروا للإله الذي تم تدنيس حرمه. ولما كانوا الفوقيون هؤلاء هم الطرف الأضعف فقد استدعوا ملك مقدونيا، فيليب، لمساعدتهم. وكان هذا بالفعل قد غذى ذلك الشقاق من قبل. وانتهز فيليب الفرصة بكل سرور، لأن ينفذ المكايد التي طالما خطط لها ضد حريات الإغريق. وعن طريق الدسائس والرشاوي التي دفعها ذلك الرجل استطاع أن يكسب لصالحه ويسخر خدمة الزعماء الشعبيين في عدة مدن. وبفضل تأثير هؤلاء في العامة، وعن طريق أصواتهم فاز فيليب بالدخول إلى مجلس المفوضين نفسه؛ ثم إنه عن طريق فنون الغش وقوة السلاح أقام نفسه سيداً للحلف بأكمله.
على هذه الشاكلة كانت النتائج التي ترتبت على المبدأ الخطأ الذي قامت على أساسه تلك المؤسسة الطريفة (كونفدرالية الحلف). ولو كانت بلاد الإغريق كما يقول ملاحظ يندب حظها قد اتحدت في تحالف أشد صرامة وثابرت على اتحادها، لما كانت قد لفت حول عنقها أغلال مقدونيا، بل لربما كانت أثبتت كونها سداً حال دون تنفيذ مشاريع روما فيما بعد.
وكذلك كانت العصبة الآخية، كما يطلق عليها، تجمعاً آخر للجمهوريات الإغريقية، وتجمعاً يزودنا بدروس ثمينة أيضاً.
فقد كان الاتحاد في هذه العصبة أكثر حميمية من سابقه، وكان تنظيمه ينم عن حكمة أكبر مما في المثال السابق. ويبدو تبعاً لذلك إن ذاك الاتحاد، وإن لم ينج من كارثة مماثلة، فإنه لم يكن يستحقها بقدر ما استحقها رفيقه الآخر.
لقد احتفظت المدن التي تألفت منها هذه العصبة لنفسها بالتشريعات البلدية لكل منها، وعينت موظفيها الخاصين بها، كما تمتعت جميعها بالمساواة الكاملة ما بينها. وكان لمجلس الشيوخ وحده (السناتو) الذي كان يتمثل فيه الحق المطلق والشامل في إعلان الحرب أو السلم؛ وبعث السفراء واستقبالهم والدخول في معاهدات وتحالفات مع الغير، وتعيين مدير رئيس أو "بريتور"، كما كان يسمى، بتولي قيادة جيوش العصبة، ويدير، بمشورة عشرة أعضاء في مجلس الشيوخ وموافقتهم، كامل دفة الحكم حال غياب مجلس الشيوخ، ويشارك بقدر كبير في مداولات ذلك المجلس حين يعقد اجتماعاته. وطبقا للدستور البدائي كان هناك بريتوران إثنان يشتركان في إدارة دفة الحكم.. وبعد التجربة كان يفضل أن يتولى ذلك أحدهما فقط.
ويظهر أن مدن العصبة كان لديها القوانين نفسها والعادات نفسها، والأوزان والمكاييل نفسها أيضاً، بل حتى العملة ذاتها. أما إلى أي مدى تم ذلك التوحيد بفضل سلطة المجلس الفدرالي فهو أمر لا يزال في طي الكتمان ويقال بخصوص ذلك أن المدن قد أجبرت على نحو ما، أن تتسلم القوانين نفسها واستخداماتها. حين تم إدخال لاكديمون إلى العصبة على يدي فيلوبومين، رافق ذلك إلغاء مؤسسات وقوانين ليكورغوس، وتم تبني مثيلاتها عند الآخيين وقد تركتها الأحلاف الأمفيستونية التي كانت عضوا فيها، تمارس طريق الحكم فيها بكل حرية كما تمارس تشريعها ما قبل الانضمام أيضاً. وهذا الحدث وحده قد يثبت فارقاً حقيقياً جداً في عبقرية ذينك النظامين.
ما أعظم الأسف على أن تبقى المخلفات غير الكاملة وحدها من ذلك النسيج السياسي والعجيب. فلو أمكن الجزم بالبنية الداخلية له، ونظام تشغيله، لكان من المحتمل إلقاء ضوء على علم الحكم الفدرالي أكثر من أي من التجارب التي نعرفها في التاريخ.
وهناك حقيقة مهمة واحدة يبدو انه يشهد لها جميع المؤرخين الذين يتابعون الشؤون الآخية. وهي أنه: بعد إعادة تجديد العصبة على يدي آراثوس كما كانت قبل تفكيكها بفعل دسائس مقدونيا، بات هناك قدر من الاعتدال في الإدارة، والعدالة في الأحكام أكثر بكثير مما كان قبل ذلك، وقدر أقل من العنف والفساد في أوساط الشعب مما يوقع عليه في أي من المدن الفردية التي تمارس شروط السيادة الكاملة. ويقول الأب "مابلي" في ملاحظاته عن بلاد الإغريق "إن الحكم الشعبي والذي كان عاصفاً في المواطن الأخرى، لم يخلق أي اضطرابات بين أعضاء الجمهورية الآخية؛ لأنها جميعاً كانت مقيدة بالسلطة العامة وقوانين العصبة "الكونفدرالية".
وليس لنا، على كل حال، أن نستنتج أن الانقسام لم يهيج، إلى درجة معينة، مدناً خاصة في العصبة، اقل بكثير مما ساد الخضوع اللازم لها والانسجام ما بين أعضائها في النظام العام. ويتبدى نقيض ذلك بوضوح في عثرات الحظ التي عانتها تلك الجمهورية ومصيرها الذي آلت إليه.
وطوال ما بقي الحلف الأمفيستوني قائماً فقد أبرز التحالف الآخي الذي ضم المدن الأقل أهمية من سابقه شخصيةً ضئيلة على مسرح بلاد الإغريق. وعندما وقع الأخير ضحية لمقدونيا، اندفع الأول قدماً متأثراً بسياسة فيليب والإسكندر. وفي عهد ذلكما الأميرين سادت سياسة نقيضة للسياسة السابقة. آنذاك تم تطبيق دسائس التفريق فيما بين الآخيين، ونجح إغراء كل مدينة بمنفعة تعود عليها وحدها، وانحل ذلك الاتحاد. ولقد وقع بعض المدن تحت طغيان الحاميات المقدونية، فيما وقع البعض الآخر في قبضة مغتصبين آخرين برزوا من رحم الفوضى في تلك المدن. ثم إن الشعور بالعار والاضطهاد سرعان ما أيقظ عشق تلك المدن للحرية، فأعاد البعض منها الاتحاد فيما بينها. وحذا غيرها حذوها حين سنحت الفرصة لاجتثاث الطغاة فيها. وسرعان ما ضمت العصبة جميع شبه جزيرة البلوبونيز تقريباً. ورأت مقدونيا تقدمها، لكن الانقسام الداخلي في مقدونيا شغلها وأعاقها عن إيقاف التقدم. وأصابت عدوى الحماس كل بلاد الإغريق وبدا أن البلاد ستتحد في كونفدرالية واحدة، لولا ظهرت الغيرة والحسد في إسبارطة وأثينا من المجد الطالع للآخيين، فألقتا السم على ذلك المشروع. يومذاك دفع الخوف من قوة مقدونيا تلك العصبة إلى السعي للتحالف مع ملوك مصر وسوريا، وكان هؤلاء بصفتهم خلفاء للاسكندر، أندادا منافسين لملك مقدونيا. وقد أفشل هذه السياسة كليومينيس، ملك إسبارطة، حيث كان طموحه يقوده للقيام بهجوم لا مبرر لو على جيرانه الآخيين. وبصفته عدواً لمقدونيا كان ذا مصلحة مع أميري مصر وسوريا كافية لأن تجعلهما يحلان ارتباطهما بالعصبة. وهكذا أجبر الآخييون على مواجهة المعضلة من جديد، معضلة الرضوخ إلى كليومينيس أو طلب المساعدة من مقدونيا ظالمتهم السابقة. وقد فضلوا الأخذ بالضرورة الأخيرة. إن المنازعات ما بين الإغريق ظلت على الدوام تتيح الفرصة لذلك الجار الأقوى لأن يتدخل في شؤونهم. وسرعان ما ظهر في الساحة جيش مقدوني. وتم قهر كليومينيس. وخبر الآخيون على الفور، كما يحدث مراراً، أن الحليف المنتصر والقوي لهو اسم مرادف لسيّد يتحكم. وكل ما استطاع الإستخذاء الرخيص من طرفهم، أن يحصل عليه من ذلك الجار - لم يعد تسامحه معهم في أن يطبقوا قوانينهم. وما أسرع أن استثار فيليب، الذي كان يتولى العرش في مقدونيا حينذاك، وجرّاء وتصرفات طغيان – إقامة تجمعات جديدة بين الإغريق. فمع أن الآخيين كانت أضعفتهم الانقسامات فيما بينهم وقيام ثورة مسيني، المدينة العضو في العصبة. فقد استطاعوا أن يضموا إليهم الأيتوليين، والأثينيين ويرفعوا معهم راية المعارضة والعداء. وحين وجدوا أنفسهم، رغم تلك المساندة، غير أنداد للتمرد على مقدونيا، نكصوا مرة ثانية إلى الأخذ بضرورة إدخال منقذ أجنبي جديد. لقد وجهوا الدعوة إلى روما. ومع أسرع أن تلقف الرومان تلك الدعوة. فتم قهر الملك فيليب، وتم إخضاع مقدونيا. وعند ذاك برزت أزمة جديدة تواجه العصبة فقد نشبت منازعات بين الأعضاء فيها. وغذاها الرومان. وأصبح كوليكراتيس وزعماء شعبيون آخرون أدوات مرتزقة لتضليل مواطنيهم وإغوائهم. وبقدر ما زاد الرومان فعاليتهم في تغذية الخلاف والفوضى، بقدر ما أثار دهشة ذلك الذين وثقوا في صدقهم حين أعلن الرومان الحرية العامة لجميع بلاد اليونان. وبنفس هذه الآراء المخادعة عمدوا الآن إلى إغواء أعضاء في العصبة بقولهم لهم: إن العصبة تحط من قدر سيادتهم، ومن جراء هذه الأحابيل، تمزق بدداً ذلك الاتحاد، الأمل الأخير للإغريق، بل الأمل الأخير للحرية في العصر القديم. لقد تمزق نتفاً، وتم جلب الخنوع والضياع، حتى إن روما لم تلق إلا مشقة قليلة في إكمال الدمار الذي بدأته مكايدها سابقاً. نعم، تمزق الآخيون، وأثقلت آخياً الأغلال التي ما تزال تئن منها حتى هذه الساعة.
لقد رأيت أنه من غير الإطناب الفضولي أن أعرض ملخصاً لذلك الجزء المهم من التاريخ لأنه يعلم الناظر إليه أكثر من درس واحد في الوقت نفسه، ولأنه بصفته تمهيداً لمجمل الدستور الآخي، يؤكد كما يوضح ميل الهيئات الفدرالية لخلق الفوضى بين الأعضاء أكثر من ميلها لخلق طغيان من قبل الرئيس.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 126-133.

العودة للصفحة الرئيسية