الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 16
الكسندر هاملتون
Alexander Hamilton
4 ديسمبر، 1787


إلى أهالي ولاية نيويورك:
إن الميل لإعطاء مبدأ (حق) التشريع إلى الولايات، أو المجتمعات، بصفتها السياسية، كما مارسناه في التجربة التي قمنا بها حول هذا الخصوص – مبدأ تشهد عليه الأحداث التي أصابت جميع الحكومات الكونفدرالية، والتي نجد عن نسبة نجاحها وصفاً دقيقاً في تلك الأنظمة. ويستحق ما تثبته هذه الحقيقة فحصاً متمعناً وخاصاً. لكني سأكتفي هنا بملاحظة عابرة فأقول: يبدو أن جميع تلك التجمعات الكونفدرالية في الماضي السحيق والتي عرضها لنا التاريخ، مثل عصبة ليسيا والعصبة الآخيّة وبقدر ما وجدنا من آثارهما – كانتا متحررين من قيود ذلك المبدأ الخطأ، مبدأ التشريع من قبل الولاية، ومن ثم كانتا هما الأجدر لأن تلقيا التقريظ الراضي عنهما من الكتاب السياسيين.
ويمكن اتخاذ هذا المبدأ القابل للاستثناء أنموذجاً سابقاً وبصورة مركزة على أنه أبو الفوضى: فقد نُظر فيه إلى أن الانحرافات من جانب أعضاء الاتحاد نتيجة حتمية طبيعية نابعة منه. وفي كل مرة كانت تحدث تلك الانحرافات، كان العلاج الوحيد لها دستوريا هو استخدام القوة، ثم النتيجة المباشرة التي ترتبت على ذلك الاستخدام هي الحرب الأهلية.
يبقى علينا أن نتحرى مدى النفور والكراهية من آلهة الحكم هذه فيما لو طبّقت علينا، كما نتحرى قدرتها على أن تفي بالغرض المطلوب منها. إذا لم يكن هناك جيش ضخم وثابت تحت تصرف الحكومة الوطنية، فإنها لم تستطيع استخدام القوة على الإطلاق وحين تستطيع استخدامها، فإن ذلك يتحول إلى حرب تقوم بين الأجزاء المختلفة من الكونفدرالية ذات العلاقة، وفي الحرب يكون الأقوى هو الأرجح أن يفوز، سواء كان ذلك (الأقوى) ممن أيدوا السلطة العامة أو عارضوها. ونادراً ما يحدث أن يتم إصلاح الانحراف وحصره في عضو واحد، فلو كان هناك أكثر من عضو واحد أهمل للقيام بواجباته، فإن التشابه في الوضع بين أولئك الأعضاء سوف يدفعهم جميعاً لأن يتحدوا بغية الدفاع عن أنفسهم. وبغض النظر عن دافع العاطفة لو صدف أن كانت ولاية ذات نفوذ كبير هي الولاية المعتدية أو المتمرد، فانه سيكون لها وزن كاف ما بين جاراتها بحيث تكسب رأي بعض تلك الجارات وجعلها تقف إلى جانبها والإسهام في قضيتها. عند ذاك تقوم مناقشات مستفيضة حول الخطر على الحرية العامة، وما أسهل قيامها: وتبرز من ذلك الطرف أعذار مقبولة لحدوث تلك الانحرافات يتم اختراعها لبث المخاوف، وإلهاب المشاعر، واسترضاء النية الحسنة لدى الولايات غير المتهمة بأي حيدة عن الوفاء بالواجب أو إلغاء ذلك الواجب أصلاً. هذا هو الأكثر احتمالاً لأن يحدث، إذ من المنتظر أن تكون انحرافات الولايات الأكبر وليدة الطموح المدروس من طرف حاكميها، مع تصورهم أن يتخلصوا من كامل الرقابة الخارجية على خططهم لتعظيم أشخاصهم؛ وافتراضهم أن خير وسيلة للوصول إلى ذلك، هي ملاينتهم أولاً للشخصيات البارزة في الولايات المجاورة، فإذا لم يتيسر إيجاد مشاركين لهم في الولايات المجاورة عند ذاك يتم اللجوء إلى طلب المعونة من القوى الأجنبية، التي نادراً ما تكون غير راغبة في تشجيع الانقسامات في كونفدرالية تخشى أعظم الخشية من بقائها متماسكة موحدة. وحينما يجرد السيف لا ترعى مشاعر الرجال أي حد للاعتدال. حينذاك تبرز فرضيات الكبرياء الجريح، ويغدو حقن الغضب المستشار مستعداً لإيصال الولايات التي شهرت عليها أسلحة الاتحاد إلى أي تطرف كفيل بالثأر من المجابهة، أو تجنب عار الاستسلام. إن أول حرب من هذا النوع قد تنتهي بانحلال الاتحاد.هذا ما يمكن اعتباره موتاً عنيفاً للكونفدرالية. أما الموت الطبيعي لها فهو ما نكاد الآن نسعى لتجريبه، ما لم يتم تجديد النظام الفدرالي على وجه السرعة وجعله أنموذجاً أكثر محسوسية مما هو عليه. إن من غير المحتمل، لو أخذنا عبقرية هذه البلاد في الاعتبار، أن تكون الولايات الملتزمة في أكثر الأحيان ميالة إلى مساندة سلطة الاتحاد بالانغماس في حرب ضد الولايات غير الملتزمة. فالملتزمة دائماً أكثر استعداداً لإتباع الطريق الأكثر اعتدالاً، ووضع نفسها على أرضية مساوية مع الأخرى المنحرفة، لإعطائها مثالاً يحتذى. ذلك أن خطيئة الكل، بهذه الطريقة، تغدو أماناً للكل. وقد أوضحت خبرتنا العملية الماضية تطبيقية هذه الروح، في ضوء كاف تماماً. من ثم سيكون هناك صعوبة لا يمكن تخطيها في الواقع، هي صعوبة الجزم في: متى يكون استخدام القوة مناسباً. ففي موضوع الإسهام النقدي (في خزينة الاتحاد)، والذي سيكون المصدر الأكثر تكراراً من غيره للانحراف، كثيراً ما سيتعذر تقرير ما إذا كان الإسهام قد نتج عن عدم الميل إليه أو عدم القدرة عليه. وسيكون ادعاء عدم القدرة في متناول اليد على الدوام. والقضية فاضحة مشهّرة، ويمكن التحري عن المغالطة فيها بقدر من اليقين... لتبرير اللجوء إلى ضرورة الإجبار القاسية، ومن السهل أن نرى أن هذه المشكلة وحدها، كلما تكررت، فتحت مجالاً واسعاً للأكثرية التي تفوز في المجلس الوطني من خلال ممارستها آراء تدعو إلى الانقسامية، والتحيز، والقمع.ويبدو أنه لا حاجة إلى أي عناء لإثبات أن على الولايات ألا تفضّل دستوراً وطنياً يمكن إبقاؤه سارياً فقط عن طريق جيش ضخم يظل مستعداً على الدوام لتنفيذ القوانين العادية للحكومة أو المراسيم. مراسيمها هي. ومع هذا فإن ذلك هو البديل البسيط الذي تنطوي عليه رغبة من ينكرون على الدستور الآن القدرة على مدّ نطاق عملياته إلى الأفراد. والحق أن مثل هذه الخطة، إذا كانت قابلة للتطبيق على الإطلاق، فسرعان ما تنحط فوراً إلى دركة طغيان عسكري؛ أما فيما بعد فسيتم اكتشاف أن ذلك غير قابل للتطبيق، وفي كل مجال، إن موارد الاتحاد لن تكون كافية للاحتفاظ بجيش ذي حجم كاف لاحتجاز الولايات الأكبر ضمن حدود واجباتها؛ ولن تتوفر الوسيلة في أي يوم من الأيام لتشكيل مثل هذا الجيش، في المقام الأول. وكل من يفكر في كثافة سكان عدد ولايات من ولاياتنا، وفي قوتها، حتى في هذا المنعطف من التاريخ، وينظر قدماً إلى ما ستكون عليه بعد نصف قرن لا أكثر – سوف يقصي من ذهنه أي خطة تهدف إلى تقييد حركاتها عن طريق القوانين التي تسري عليها بصفتها الجماعية، ويتم تنفيذها بقسر وبصفتها الجماعية أيضاً، ويعتبر الخطة مجرد حماقة وتخيلات. إن مشروعاً من هذا القبيل لهو رومانطيقي أقل قليلاً من روح تدجين المارد، التي ينسبونها إلى الأبطال، أنصاف الآلهة، القدماء.
وحتى في الكونفدراليات التي تشكلت من أعضاء هم أصغر من كثير مما هو ناحية عندنا، نجد أن إعطاء مبدأ التشريع للولايات الكاملة السيادة، والذي يسنده القمع العسكري – مبدأ لم تثبت فعاليته أبدأً. ونادراً ما تمت محاولة استخدامه، إلا ضد الأعضاء الأضعف، بل نحن نجد في معظم الأحيان أن محاولات قمع التمرد والعصيان كانت إشارة إلى حروب دموية رفع فيها أحد نصفي الكونفدرالية بنوده ضد النصف الآخر.
وحصيلة هذه الملاحظات لدى شخص ذكي لا بد أن تكون ما يلي: إذا أمكن على أي مستوى إقامة حكومة فيدرالية تستطيع تنظيم ضبط الهموم العامة والحفاظ على الهدوء العام – فيجب إقامتها، بحيث تفي بتلك الأهداف، وعلى أساس يكون عكس المبدأ المطروح للبحث عن معارضي الدستور المقترح. ويجب أن يشمل نفاذه حتى أشخاص المواطنين. كما يجب ألا يكون أبداً في حاجة إلى تشريع وسيط، بل يجب تخويله في نفسه حق استخدام ذراع الموظفين الإداريين العاديين لأن ينفذوا قرارته الخاصة. إن سيادة السلطة العامة يجب أن تتبدى خلال واسطة محاكم العدل. وعلى حكومة الاتحاد، مثلها مثل حكومة كل من الولايات، أن تكون قادرة على مخاطبة آمال ومخاوف الأفراد بصورة مباشرة؛ وأن تجذب إلى تأييدها تلك العواطف الأقوى تأثيراً في قلوب الناس. وباقتضاب، يجب أن تمتلك تلك الحكومة جميع الوسائل، ويكون لها الحق في اللجوء إلى جميع الأساليب، الضرورية لتنفيذ السلطات المؤتمنة عليها، والتي تمتلكها وتمارسها حكومة أية ولاية بمفردها.
على هذه المحاكمة العقلية قد يثار اعتراض أن أية ولاية لا تشعر بالود تجاه سلطة الاتحاد تستطيع، في أي وقت، أن تسد طريق تنفيذ قوانينه، وأن تجلب القضية إلى نفس النتيجة السابقة، نتيجة استخدام القوة، والتي تفرض في تلك الحال، أن تلقى الخطة المضادة لها الرفض والملامة.
إن التقبل العام لهذا الاعتراض سوف يزول لخطة رجوعنا إلى الفرق الرئيسي بين مجرد التمشي مع الوفاء بقوانين الاتحاد، وبين المقاومة المباشرة والنشطة لتلك القوانين. فإذا كان توسط تشريع الولاية ضرورياً كيما يمنح نفاذاً لقوانين الاتحاد، يكون على تلك القوانين ألا تسري، أو تسري باللف والدوران، فإن قانون الاتحاد يسقط عند ذاك، ولا يتم إقراره. وقد يتخفى هذا الإهمال للواجب تحت شروط مرغوب فيها أن تظهر، لكنها غير حقيقية، خشية أن تثير بالطبع، أي تخوف لدى الناس على سلامة الدستور. فقد يجعل رؤساء الولايات من حقهم أن يقوموا بالإشراف، ثم يتدخلون على أساس خلق شئ من الارتياح المؤقت، والإعفاء، والامتياز لصالحهم.
أما إذا كان تنفيذ قوانين الحكومة الوطنية لا يتطلب تدخّل تشريعات الولاية، وإذا كان نفاذها يتم بصورة مباشرة على المواطنين أنفسهم، فإن الحكومات الخاصة بالولايات لن تستطيع اعتراض سير تلك القوانين دون خروج مكشوف ومباشر من جهتها لأن تكون مناهضة للدستور، إن أي حذف لتلك القوانين أو التحايل عليها لن تلبي حاجة الولاية إلى التستر. وعند ذاك يمكن إجبارها على التصرف، وبطريقة لا تترك أي شك في أنها قد اعتدت على الحقوق الوطنية. إن تجربة من هذا النوع ستكون دائماً خطرة في وجه أي دستور على درجة من الكفاءة للدفاع عن نفسه، ومن شعب متنور بما يكفي لأن يميز بين ممارسة السلطة القانونية وبين الاغتصاب اللا قانوني للسلطة. ولن يحتاج نجاح القانون إذ ذاك إلى أكثرية حزبية في التشريع فحسب، بل إلى الانسجام ما بين محاكم العدل وهيئة المواطنين أنفسهم. فإذا لم يتواطأ القضاة مع التشريع، فسوف يعلنون أن قرارات مثل تلك الأكثرية هي قرارات مخالفة لقانون المحكمة العليا في البلاد، فهي غير دستورية، ولاغية، وإذا لم يكن أهل الولاية ملوّثين بروح ممثلي ولايتهم، فإنهم بصفتهم حماة طبيعيين للدستور سيلقون بثقلهم في الكفة الوطنية من الميزان ويهبون الدستور رجحاناً كافياً في الصراع. إن محاولات من هذا النوع لن تتم بطيش أو تهور، لأنها نادراً ما تحدث دون تعويض الذين يحركونها للخطر، ما لم يكن هناك نية للاعتداء الطغياني على سلطة الاتحاد ذاته.
وإذا حدث أن نشأت معارضة للحكومة الوطنية من تصرفات غير منضبطة من مشاغبين أو ذي نزعة إلى الانحراف – فإنه يمكن التغلب عليها من خلال الواسطة نفسها المستخدمة يومياً للقضاء على تلك الشرور من قبل حكومة الولاية. فالموظفون الإداريون، بحكم أنهم ينفذون القوانين في الولاية، من أي مصدر جاء الشر، سيكونون مستعدين دون شك لحماية التعليمات الوطنية، شأن التعليمات المحلية، ضد تجاوزات الأفراد عليها. أما بخصوص التحركات الحزبية والتمردات التي تقلقل المجتمعات في بعض الأحيان، بفعل دسائس التحزب ومكايده، أو بفعل الأمزجة، والتي لن تعدي الكثرة الكبرى من أفراد المجتمع – فإن بمقدور الحكومة الوطنية العامة السيطرة على جميع موارد الاتحاد لسحق اضطرابات من ذلك النوع، وأعني الموارد التي تخضع لأي ولاية عضو في الاتحاد بمفردها. وأما بخصوص النزاعات الدموية التي لا ريب أن مفاصلها ستنشر اللهب في مختلف أجزاء البلاد، أو عبر نسبة كبيرة منها، إما لوجود أسباب ذات وزن تعود إلى التذمر من الحكومة، أو بسبب انتشار العدوى بتأثير عنف شعبي – فهي (أي النزعات) لا تقع ضمن أي حسابات عادية يمكن التنبؤ بها وأخذها في الحسبان. وعند حدوث مثل ذلك، فالنزاع في العادة يتعاظم حتى يغدو ثورة وتجزئة للإمبراطورية ذاتها. وأي شكل من أشكال الحكومة لا يستطيع: لا تجنب مثل تلك الاندفاعات، ولا السيطرة عليها. ومن اللا جدوى التفكير في ضمان عدم حدوث ما هو أقوى مما يستطيع الإنسان التنبؤ به أو الاحتياط له، كما أنه من الحمق أن يعارض المرء حكومة ما لمجرد أنها لا تستطيع القيام بالمستحيل.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 114-125.

العودة للصفحة الرئيسية